الأكثر قراءة قد يعجبك أيضا شارك برأيك الدكتور محمد المخزنجي يكتب لـ«الشروق»: ميتوكوندريا طائر في حديقة.. سر حيوية نجم ساطع تجاوز التسعين

(إلى الشروق وأيامها العزيزة وذكرى الرجل الذى كان فى متنها)

بعد أن استقبلَنا عند المدخل المحاط بأحواض الزهور، دعانا إلى ركنه الأثير فى الحديقة الداخلية. كنا عشرةً ممن اختصهم بدعوة على الغداء، معظمهم من تلاميذه وأصدقائه المقربين الذين يعرفون المكان جيدًا، بينما كانت هذه أول مرة أشرف فيها بدعوته. تَوزَّعنا على الكنبات والمقاعد المريحة تحت تعريشة مظللة بالنباتات، ولم يكن يتوسطنا، لكن سحره الودود، والمشع فى الوقت نفسه، جعله مركز الجمع فى هذا المكان الذى يُعد تاريخيًّا على نحوٍ ما، ففى هذا المكان زاره ملوك ورؤساء وقادة سياسة وفكر وصحافة. كان شخصيةً عالميةً عن جدارة، ومصريًّا صميمًا، وهو ما تجلَّى بسلاسة فى هذه الجلسة، فقد كان يُحادث العالم عبر مكالمات من أربعة أرجاء الأرض، وفى الوقت نفسه يتداخل معنا نحن العشرة بيقظة صافية وألفة محبَّبة. وبعد نحو ساعة ونصف تلقَّى إشارةً من زوجته السيدة هدايت، كأنها بالتخاطر، فنهض داعيًا إيانا إلى الغداء.عبرنا ردهة البيت شديد الأناقة وعميق الألفة فى آن، ووجدنا فى «التراس» المطل على الحديقة الأمامية عدة موائد مستديرة توزَّعنا عليها دون ترتيب. ولم يجلس هو، بل ظل واقفًا «يوجِّبنا» ويغرينا بهذا الصنف أو ذاك من البوفيه المفتوح فى الركن. ولأننى كعادتى «لم أكن» على راحتى فى الأكل على موائد أُدعى إليها خارج أريحية انفرادى وحميمية أسرتى، رحت أشرد بعقلى وقدمى، وسمحت لنفسى ــ عندما اكتشفت أن ذلك مقبول ــ بالتجول هنا وهناك عبر الأبواب المفتوحة على التراس، فكنت ألتقى كتبًا مع كل خطوة، بالعربية والإنجليزية والفرنسية، تشى بأنه كان يقرأ فى أكثر من كتاب فى وقت واحد، يقرأ طوال الوقت، وفى كل الأماكن.

ظاهرة تدعو إلى التأمللمح الأستاذ هيكل أننى لا آكل كما ينبغى، فأخذنى إلى البوفيه، التقط طبقًا وراح ينتقى لى ما يحرِّضنى على تذوُّقه والإقبال عليه، تناولتُ الطبق شاكرًا مودَّته، لكننى لم أجلس، بل حملت الطبق مُتمشيًا، «أنقنق» مما اختاره لى وقد كان شهيًّا بالفعل، بينما كان جل انشغالى موجهًا لتأمل هذا الرجل، هذه الظاهرة. لا شك أننى أحبه، حبى لكل موهبة عالية، أيًّا كان الاتفاق أو الاختلاف مع صاحبها. وقد كان هيكل موهوبًا حقيقيًّا، أقولها بثقة قارئ أمضى فى أعماق القراءة أكثر من نصف قرن. هيكل هو أحد سادة الكتابة العربية، تلك التى عَمِى عنها النقد الأدبى فى بلادنا، والتى تنتمى إلى ذلك النوع الذى شيد جسرًا ما بين الصحافة والأدب، عنوانه «رواية الحقيقة القصصية» faction))، وليس(fiction)، تلك التى خرج من رحمها «التحقيق المعمق» و«القصة الصحفية»، وأزعم أن هيكل كان أحد سادة هذا النوع من أدب الصحافة، ليس فى عالمنا العربى فقط، بل فى العالم.كان الأستاذ هيكل موهوبًا فى أطياف عديدة من النشاطات، محورها ومرآتها كتاباته، إلا أن هناك طيفًا لم يحظَ بالتوقف الواجب عنده، فهو يتطلب نوعًا من التبصُّر الطبى، وتأَمُّل ما تعنيه شجون وفتون «الشيخوخة»، وأظننى مهجوسًا بهذه الفتنة وهذا الشجن، ليس فقط لأننى وكثيرين ممن أحب بلغنا العمر المُشارِف على هذا النطاق، بل لأننى عايشت شجون الشيخوخة مع عديدين قريبين من قلبى، وهو ما أورثنى هاجسًا مقيمًا، ليس أن أقاسى هذه الشجون، فهذا مُقدَّر ومقدور عليه بالصبر والرضا والطب التلطيفى (إن وُجِد)، ولكن أن يقاسى مَن أحبهم ويحبوننى ما يمكن أن يقع عليهم من أعباء جِسام، تتجشمها أجساد ونفوس مَن يُعنَون بحبيب أو قريب تضربه أمراض الشيخوخة، فلا. لهذا، كان طبيعيًّا أن تفتننى حيوية هيكل فى ذلك اليوم وهو فى «تراس» التسعين، وقد ظل على هذه الحيوية ــ الذهنية خاصة ــ حتى رحيله عن عمر ناهز الثالثة والتسعين.كان فى ذلك اليوم «على راحته»، يرتدى قميصًا قطنيًّا وبنطالًا من الكتان وحذاءً خفيفًا، فاتحة الألوان كلها، ومكثت أتأمله وهو يتحرك بحيوية بين ضيوفه، وبحضور ذهنى يرسل ويتلقى ما يدور من أحاديث على الغداء، برشاقة لاعب بنج بونج بارع الحركة ودقيق التصويب. شاب! شاب فى التسعين! روَّض عصف الإيغال فى العمر. كيف روَّضه؟ كنت أعرف شيئًا يحملنى إلى أول الإجابة، ثم تأكد ما أعرفه من حديث للسيدة الفاضلة هدايت تيمور فى ذلك اليوم، فقد حكت وهى تضحك كيف أنها فى البداية قاومت الانتقال من بيتها فى القاهرة والعيش فى هذا البيت بقرية «برقاش» فى محافظة الجيزة، وكان شرطها التعجيزى للأستاذ أن لا مانع، ولكن مع وجبة العشاء! وتيقنت أن ما كان يشاع عن أن هيكل استبعد من طعامه وجبة العشاء كان حقيقة، والمدهش أنه بدأ ذلك وهو فى الأربعين! بداية مبكرة جدًّا اجترحها لاتباع نظام «تقييد السعرات» calories restriction، وكان ذلك بدايةً لإبحارى فى محاولة الإجابة عن سؤال كبير فى الطب، كما هو فى مآل الحياة البشرية.

الأكثر قراءة قد يعجبك أيضا شارك برأيك الدكتور محمد المخزنجي يكتب لـ«الشروق»: ميتوكوندريا طائر في حديقة.. سر حيوية نجم ساطع تجاوز التسعين

أعجوبة فى 1 من الألف من الملليمترمنذ عشرينيات القرن العشرين طُرح نظام «تقييد السعرات» كمؤثر بالجودة على الصحة مع طول العمر. فقد تبيَّن أن الفئران التى أُطعِمت وجبات متوازنة التكوين تقل سعراتها بنسبة 40% عن المعتاد، قلَّت معاناتها لأمراض الشيخوخة مع ازدياد أعمارها بمقدار النصف مقارنةً بغيرها ممن تغذوا جيدًا! وبعدها تدفقت الأبحاث بشأن نظام تقييد السعرات وأثره الإيجابى على الصحة مع التقدم فى العمر، خاصةً فى السنين العشرين الأخيرة، ثم تجلَّى دور «الميتوكوندريا» كلاعبٍ أساسى فى هذا الشأن، مما يضعها فى بؤرة الاهتمام كأعجوبة حيوية فى أجسامنا، برغم تناهيها فى الصغر. فالميتوكوندريا، ومفردها «ميتوكوندريون» ويُعرَّبان «مُتقدِّرات» ومفردها «مُتقدِّرة»، هى عُضيَّات تشغل فى المتوسط حيزًا مقداره ميكرون واحد، أى جزء من ألف من الملليمتر، وتوجد فى سيتوبلازم سائر خلايا الجسد البشرى، باستثناء كرات الدم الحمراء، فى حين تختلف أعدادها فى كل نوع من الخلايا. ولكونها بالأساس مُولِّد الطاقة الذى يزود الخلية بـ90% من احتياجاتها، فإنها تكون كثيفة العدد فى الخلايا التى تحتاج إلى كثير من الطاقة، كخلايا القلب، والشبكية، والعضلات، والكبد. والأخير ــ على سبيل المثال ــ لكونه يؤدى مئات العمليات الحيوية، فإن كل خلية من خلاياه تضم ما بين 1000 و 2000 ميتوكوندريا، تشغل خُمس حجم الخلية.لقد ظل تركيب الميتوكوندريا وطريقة عملها مبهمًا برغم التبشير بوجودها منذ خمسينيات القرن التاسع عشر. لكن فى عام 1948 نجح عالِم الكيمياء الحيوية، «ألبرت ليننجر»، وزميله «إيوجين كينيدى»، فى اكتشاف أنها موقع «الفسفرة التأكسدية» Oxidative phosphorylation المولِّدة لمعظم الطاقة فى الخلايا حقيقية النوى، من الكربوهيدات والأحماض الدهنية والبروتينات (بدرجة أقل)، فى وجود الأكسجين، وتأخذ الطاقة المولَّدة بهذه الطريقة شكلًا كيميائيًّا هو «أدينوسين ثلاثى الفوسفات» ATP، وهذه العملية تتكون من سلسلة تفاعلات خلابة وكأنها عرض فنى إيقاعى مبهر، فالطاقة المطلوبة لإتمام كل تفاعل يتم الحصول عليها بتنقيل الإلكترونات بين مصفوفة من البروتينات، تُنتزع من واحد وتضاف إلى ما يليه، ثم يفقدها الأخير لتذهب إلى ما بعده، وفى كل قفزة إلكترون تتولد كمية صغيرة من الطاقة تُستخدم لإتمام تفاعل، وهكذا حتى التفاعل الأخير لدمج الفوسفات مع أدينوسين ثنائى الفوسفات ADP لتشكيل ذروة العرض، أدينوسين ثلاثى الفوسفات «ATP».

تركيب الميتوكوندرياوكما فى الفن الفائق، تكون هناك ذروة ثانية بعد الأولى، وتتمثل هنا فى إطلاق الطاقة الكبرى بإضافة جزىء ماء إلى جزىء ATP وعودة الأخير إلى ADP من جديد، ومن جديد يتواصل هذا العرض العظيم، لتوليد طاقة مُستدامة، بالغة السخاء، وبالغة الاقتصاد فى الوقت نفسه، فالفسفرة التأكسدية تُنتِج 34 جزىء ATP من جزىء جلوكوز واحد. لكن، أين بالضبط ــ داخل الميتوكوندريا ــ تحدث هذه الأعجوبة؟ وكيف؟هذا السؤال لم تبدأ الإجابة عنه إلا بعد ثلاث سنوات من اكتشاف الفسفرة التأكسدية لإنتاج أدينوسين ثلاثى الفوسفات، فمع تطور الميكروسكوب الإلكترونى أمكن التقاط صور لدقائق الميتوكوندريا كشفت عن تركيبها مذهل البساطة والعبقرية، من غشاءين لا غير، يقومان بعمل مجمع صناعى كيميائى حيوى متكامل. غشاء خارجى رقيق عالى النفاذية، تسمح ثغراته البروتينية بإمرار ما يأتيه من سيتوبلازم الخلية ويلزم مجمل عمل الميتوكوندريا. وغشاء داخلى محدود النفاذية لا يسمح إلا بمرور ما ينتقيه لإتمام تفاعلات إنتاج الطاقة، وهو سميك متعرج تزيد تعرُّجاته من مساحة سطحه ليتسع لمسلسل هذه التفاعلات، كما أن كل تعريجة فيه تصنع حدبةً تفصل بين كل مساحة وأخرى حتى لا يربك أى تفاعُل ما يجاوره. خط إنتاج عبقرى للطاقة، حيوى، وحى، ولكن.. يحدث على هامش هذا الإنجاز الهائل، ظهور مُنتج جانبى مثير للجدل، هو الأكسجين التفاعلى ROS، الذى يفتح على قلب النقاش فى معضلة الشيخوخة، وحدود ترويضها.. أكسجين للحياة وآخر لتدميرهابرغم اكتشاف أدوار عديدة للمتقدرات فى الخلية، ومن ثم فى مجمل الجسد، إلا أن دورها فى توليد الطاقة يظل هو الأكبر، والمحور الذى تدور حوله كل تأثيراتها على وجودنا، من الصِّغر حتى الكِبَر، ومن الحياة حتى الممات. مساران يبدوان متعارضَين، لكنهما من منبع واحد، عنوانه الرئيسى «الفسفرة التأكسدية»، وعنوانه الفرعى «الأكسجين التفاعلى»، والأخير ما هو إلا مركبات أكسجينية مثالها الجذور (أو الشوارد الحرة) لأيونات الأكسجين، وهى مُفرِطة أو مُفلِتة النشاط الكيميائى؛ لحَملها إضافةً من الإلكترونات المفردة، لهذا تُسبب حالات أكسدة ضارة لمكونات الميتوكوندريا ــ خاصة بروتيناتها ــ إذا تجاوزت القدرات المضادة للأكسدة لدى الميتوكوندريا. أما إذا كان هناك توازن، فإن الأكسجين التفاعلى يعمل كجرس إنذار ينبه الميتوكوندريا لتبطئ من وتيرة اندفاعها فى توليد طاقة مُبالغ فيها، وإلا.. يفلت الزمام بتسرُّب كميات ضخمة من الأكسجين التفاعلى، لتبدأ الأكسدة عربدتها فى مسلسل مضاد، متصاعد التدمير، يخلِّف بروتينات مشوهة، وعجز عن إنتاج حد الكفاية من الطاقة، فيبدأ موت الميتوكوندريا دون تجدُّد (بالانقسام الثنائى) ومن ثم موت الخلايا. وما الشيخوخة إلا موت خلايا لا تعويض كافيًا لها، أما أمراض الشيخوخة، فهى معاناة مضافة.وبذلك الخصوص، أثبت آلان رايت وزملاؤه من جامعة أدنبره أن أمراض الشيخوخة ترتبط بالزيادة المفرطة لمعدل تسرب الجذور الحرة عبر الميتوكوندريا مع الزمن. فإذا كان هذا التسرب سريعًا فإن الأمراض التنكسية Degenerative diseases تظهر، وهى أمراض تتراجع فيها الوظيفة أو البنية فى الأنسجة أو الأعضاء المصابة مع مرور الوقت، ومن أمثلتها هشاشة العظام والتهاب المفاصل العظمى ومرض ألزهايمر. أما إذا كان التسرب بطيئًا فإن تلك الأمراض تتأجل، وقد تختفى. لكن عندما تبدأ مجموعات الميتوكوندريا فى البِلى والانحلال داخل الخلايا، ويتحول تسرُّب الجذور أو الشوارد الحرة إلى فيض كاسح، فإن هذه الجذور نفسها تُطلق صافرة الخطر، فتنشط مئات الجينات فى محاولة مرتبكة لاستعادة الأوضاع السليمة، وتحدث استجابات مفرطة وغير ملائمة من الجهاز المناعى، مما يُسبب الأمراض الالتهابية المزمنة، وهذه تمثل معظم أمراض الشيخوخة، من التهاب المفاصل الروماتويدى، وتصلُّب الشرايين، وأمراض القلب، وغيرها. فهل من بصيص أمل لتقدُّم فى السن دون هذه التنكسات وتلك الالتهابات، أو حتى مع القليل المحدود غير المعوِّق منها؟

تنظيف المكان لاستقبال الجديدلقد وضح أن تقييد السعرات قلل من استهلاك الأكسجين اللازم لتوليد الطاقة داخل الميتوكوندريا، وأدى من ثم إلى تباطؤ معدل تسرب الجذور الحرة أو الأكسجين التفاعلى عبر أغشية الميتوكوندريا، واستنهاض قوى الترميم والتجديد والوصول إلى حالة التوازن. وهناك رأى علمى لا يحبِّذ استخدام مضادات الأكسدة المُصنَّعة؛ لأنها تظل موادَّ غريبةً لا يتعرف عليها الجسم، فيلفظها دون طائل. كما أن هناك مَن يرى عدم المنطق فى التناوُل المُبالَغ فيه لمضادات الأكسدة بغية القضاء على الجذور الحرة، فلا يُعقل أن نقاوم اشتعال الحرائق بتعطيل أجهزة الإنذار ضد الحريق، وهنا يصعد نظام تقييد السعرات كحاجز وقائى ضد ازدياد معدل تسريب الجذور الحرة، دون تعطيل لدورها المُنذر والموجِّه للتوازن والترميم، ودون إطاحة بدورها شديد الأهمية فى تنظيف الساحة من حطام العضيات والخلايا التالفة لصالح تكاثر ميتوكوندريا جديدة وخلايا متجددة. فالجذور الحرة لها الكلمة النهائية إذا وصل تلف المتقدرة والخلية إلى درجة اللارجعة، فهى تعطى إشارة البدء بتشغيل جهاز «الاستماتة» أو «الموت المبرمج» للخلية Apoptosis، وبدلًا من أن تتحلل وتتحول إلى نفايات نخِرة كما تفعل خلايا السرطان عند موتها النهائى، تمضى خطوات الموت المبرمج إلى البلعمة autophagy أو الالتهام الذاتى، فتقوم الخلايا المجاورة السليمة بامتصاص بقايا الخلية التى خضعت للاستماتة، لتُدخل هذه البقايا فى عملية تدوير تدعم ترميم الخلايا السليمة وتجديدها. وهكذا يقوم نظام تقييد السعرات بتقليل الأكسدة المدمرة فى الميتوكوندريا، فيحافظ على استتباب حالة التوازن فيها، خاصةً الاستتباب البروتينى الذى يعنى وجود بروتينات سليمة، ويتيح الإمكانية لعمر مديد بلا أمراض شيخوخة، أو بالقليل وغير المعوِّق منها، وهو ما ينعكس فى القدرة الجسدية والنفسية على مقاومة المفاجآت الأخطر. ولعلنى لا أذيع سرًّا إذا ذكرت، بهذا الخصوص، أن الأستاذ هيكل عندما رأيته فى ذلك اليوم ببيت برقاش، كان قبلها بسنوات أحد القلائل الذين انتصروا على السرطان، بشفاء كامل.

طيران بلا أجنحةفى كتابه البديع «ارتقاء الحياة» الصادر عام 2009، يقول عالِم الكيمياء الحيوية البارز، والكاتب العلمى الرائع نك لين: «إن نظام تقييد السعرات يحمى الجسم من أمراض الشيخوخة، على الأقل إذا بدأ ذلك فى وقت مبكر من الحياة قبل أن تبلى الميتوكوندريا، ولا بأس بأن يكون هذا فى منتصف العمر»، فخفض تسرُّب الجذور الحرة ودعم أغشية الميتوكوندريا ضد التلف مع زيادة أعدادها، تعمل كلها بكفاءة على «إعادة ضبط» ساعة الحياة وإعادتها إلى الوراء، إلى مرحلة «الشباب». وفى أثناء فعل هذا النظام لذلك، يكبح عمل مئات الجينات المسببة للالتهابات. وهذه الأمور مجتمعةً تثبط كلًّا من السرطان والأمراض التنكُّسية وتبطئ معدلات الشيخوخة!»، فكيف اهتدى هيكل إلى ذلك وطبَّقه بقناعة وإصرار، قبل نشر كتاب «ارتقاء الحياة» بما يقارب نصف قرن؟! عجيب!لقد مكثت أتابع الأستاذ هيكل فى ذلك اليوم الجميل، فى تلك الحديقة البديعة، مُمعنًا متفرِّسًا. وراق لى أن أستخدم فى تفرُّسى طريقة تقريب شكل الإنسان إلى أقرب كائن يشبهه، وهى طريقة أوردها فخر الدين الرازى فى كتابه «الفراسة»، وبها نستدل من المعلوم فى خصال كائنٍ ما، على المجهول فيمن يلوح مشابهًا له من البشر. ولم أجد إلا أن هيكل يشبه طائرًا، يرفرف هنا وهناك. وللمفاجأة، أننى عندما انشغلت بقضية صمود حيويته، الذهنية خاصة، برغم التسعين التى رأيته فيها والثالثة والتسعين التى وصل إليها، تفاجأت بأن تفرُّسى لذلك الطائر البشرى يلتقى، بالمجاز أو الاستعارة، مع استثناء حقيقى مدهش للطيور فى مقاومة أمراض الشيخوخة مع تقدُّم أعمارها، وأثبتت أبحاث عديدة أن هذا الاستثناء ينهض أيضًا على حيوية الميتوكوندريا، التى ثبت وجودها ليس فقط فى خلايا أجسادها، بل فى كريات دمائها الحمراء، أيضا!وللإضافة، قام العالم الإسبانى «جوستاف باروخا» بإجراء سلسلة من التجارب أظهرت أن تسرُّب الجذور الحرة لدى الطيور يقل بمقدار عشرة أضعاف عنه لدى نظائرها من الثدييات عند مقارنة ذلك بمعدل استهلاكها للأكسجين، وينطبق هذا على الخفافيش التى تشبه الطيور فى معدل تسرُّب الجذور الحرة المحدود من الميتوكوندريا، ومن ثم يُرجَّح أن تلك المفارقة، أو الاستثناء، يتعلقان بفعل الطيران.صحيح أن هيكل، كبشر، لم تكن خلايا دمه الحمراء تحتوى على الميتوكوندريا التى ثبت وجودها عند الطيور، ولم يكن يمتلك جناحين يطير بهما، لكنه كان بنشاطه المرفرف فى الكتابة والسياسة والفكر والأدب وشغف المعرفة، يحلق طوال الوقت، يحلق دون توقف، وبطاقة ميتوكوندريا محمية طويلًا بنظام تقييد السعرات.

العمر الزمنى، والعمر الصحىيبقى أننى حين كنت أجمع معلومات هذا المقال، لاحظت فى عديد من الأوراق العلمية خلطًا بين مفهومَى العمر الزمنى والعمر الصحى، و«بصراحة»، لم أقتنع بأن دراسة علمية على دودة فى مختبر، حتى لو كانت «الربداء الرشيقة» Caenorhabditis elegans التى كانت نموذج البحث فى أكثر من دراسة، يمكن أن تقطع بإمكانية إطالة عمر الإنسان أو تقصيره، وليست قناعتى الدينية والروحية هى وحدها ما يُنطقنى ذلك، بل حتى الإعمال العقلى العلمى يُرجِّح لى ذلك؛ لأن قضية العمر محكومة بمداخلات وتقاطعات ومفاجآت واحتمالات لا حصر لها، ويستحيل التحكم فيها مجتمعة. لهذا، كان وسيظل ما يعنينى هنا، هو العمر الصحى، الذى يجعل الإنسان منتجًا مبدعًا على هذه الأرض فى صغره وفى كِبَرِه، وليس نظام تقييد السعرات إلا وسيلةً من وسائل بلوغ هذه الغاية، وحالة الأستاذ هيكل حُجَّة، لكنها حجة لا تكتمل إلا بالتنبيه إلى أن اتباعه نظام تقييد السعرات منذ سن الأربعين، لم يكن إلا مفردة من حزمة ودائع صحية ادخرها فى شبابه واستثمرها مع امتداد العمر. حزمة بينها: نومه المبكر واستيقاظه المبكر، أى التناغم مع الإيقاع الحيوى الفطرى، والخروج لممارسة رياضة المشى فى الهواء الطلق فى الصباح، وتمارين الذاكرة التى تعيد إيقاظ الكامن فى خلايا المخ وتفرعاتها الشجرية، فقد كان يراجع دومًا ما يحفظه من الشعر، وهو كثير، ولا يُفوِّت اسمًا أو تاريخًا يهرب من ذاكرته وهو يتكلم أو يكتب، فيصمت، ويكد بذهنه مهما طال الصمت، حتى يمسك بالهارب، ويعيده إلى بهو الذاكرة، وأى ذاكرة؟!

النص ينشر بالتنسيق مع مجلة «للعلم» (forscience.com) وهى الطبعة العربية المصرية لمجلة Scientific American

فئة

مقالات ذات صلة

30 May 2022

30 May 2022

30 May 2022

30 May 2022

30 May 2022

المواد الساخنة