«الحمض الريبي» قد يُسهم في التنبؤ بـ«مقدِّمات الارْتِعاج»

ثماني سنوات مرت منذ تلك اللحظة التي عانت فيها "هدى" من مقدمات "تسمم الحمل"، كان ذلك في أبريل 2014، كانت "هدى" في أسبوعها الـ29 من الحمل الذي يسير على ما يرام؛ فبالرغم من معاناتها من ارتفاع ضغط الدم، لم يكن هناك ما ينذر بالخطر.

تقول "هدى" التي رفضت ذكر اسمها صراحة، في تصريحات لـ"للعلم": شعرت بالتعب عدة أيام، وتضخمت قدماي ويداي بصورة واضحة، نادرًا ما كنت أشتكي، لكن بعد أربعة أيام ذهبت لاستشارة طبيب أمراض النساء، الذي تفحَّص التحاليل قبل أن يُصدر قراره بضرورة دخولي إلى المستشفى، بدأت كل الأفكار تتصارع في رأسي وأنا داخل سيارة الإسعاف التي أقلَّتني، وبدأت الأمور تتطور على نحوٍ مذهل، فقد ارتفع مستوى ضغط الدم إلى أرقام تنذر بالخطر، وشعرت بتدهور شديد عند وصولي إلى المستشفى، وفي لمح البصر شققت طريقي إلى غرفة العمليات لإجراء عملية قيصرية طارئة لإصابتي بمقدِّمات الارْتِعاج، كنت خائفةً على طفلتي التي لا تزال جزءًا مني، ولم يقطع دائرة الخوف سوى رائحة "البنج" والكشافات الملاصقة لوجهي، لم يكن أمامي سوى أن أسلِّم نفسي لمشرط الجراح.

لم يتوقع الفريق المعالج أي فرصة لنجاة "هدى" أو طفلتها التي التقطت أول نفَس لها في الحياة بعد جراحة معقدة للغاية، انتظرت "هدى" سبعة أيام كاملة قبل مقابلة ابنتها، التي ظل بقاؤها على قيد الحياة مرهونًا بخيط رفيع.

تقول "هدى": ليس لديَّ اليوم سوى ذكريات ومشاعر غامضة حول تجربة مقدِّمات تسمم الحمل، وما زلت أتذكر توصية الأطباء لي وأنا في طريقي إلى غرفة العمليات: تمسَّكي بالحياة، فكِّري في عائلتك، اتركي كل شيء آخر وراء ظهرك.

مقدِّمات الارْتِعاج

معاناة "هدى" تتقاسمها اليوم نساء كثيرات عانين من مقدمات تسمم الحمل، التي تُعرف أيضًا بـ"مقدِّمات الارْتِعاج"، ومقدِّمات الارْتِعاج من مضاعفات الحمل، وتتسم بارتفاع ضغط الدم وعلامات التلف في جهاز عضوي آخر، غالبًا ما يكون الكبد والكلى، وتبدأ مقدِّمات الارْتِعاج عادةً بعد 20 أسبوعًا من الحمل عند النساء اللاتي كان ضغط الدم لديهن طبيعيًّا، وتركُها من غير علاج يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة -وربما قاتلة- لكلٍّ من الأم والجنين، ويمكن أن تؤدي إلى مضاعفات عديدة، منها انفصال مفاجئ للمشيمة عن الرحم، ما قد يؤدي إلى وفاة الجنين، وحدوث نزيف حاد عند الولادة، وولادة طفل صغير الحجم نتيجة عدم وصول الدم والغذاء الكافيَين للجنين من خلال المشيمة، وارتفاع إنزيمات الكبد، وانخفاض أعداد الصفائح الدموية المسؤولة عن تخثُّر الدم.

وتكشف نتائج دراسة حديثة نشرتها دورية "نيتشر" (Nature) أن "ارتفاع ضغط الدم في أثناء مدة الحمل -مقدِّمات الارْتِعاج- يرتبط بـ14% من وفيات الأمهات حول العالم سنويًّا؛ إذ يأتي في المرتبة الثانية بعد النزيف".

أعباء كبيرة

وتوضح الدراسة أنه "في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية توفر رعاية ممتازة للنساء خلال مدة الحمل وبعدها، تتكلف الحكومة الأمريكية أعباء كبيرة تقدر بحوالي مليارَي دولار أمريكي في رعاية الأمهات في السنة الأولى التي تلي الولادة، وبالرغم من ذلك، يمكن منع 60% من حالات وفيات الأمهات خلال مدة الحمل وبعدها، وهي حالات غالبًا ما ترتبط بالتشخيص المفقود أو المتأخر".

وتؤكد الدراسة أن "معدلات المرض والوفيات بين الأمهات آخذةٌ في الارتفاع، وتُعد الإصابة بمقدمات تسمم الحمل أحد الأسباب الرئيسية في هذا العبء، ويبقى تقييم الخصائص الفسيولوجية المرضية الكامنة وراء تسمُّم الحمل قبل ظهور الأعراض الإكلينيكية له، بهدف السماح بتحديد حالات الحمل المعرضة للخطر، أمرًا مستعصيًا".

سد الثغرات

ووفق ما توصلت إليه الدراسة التي أجراها فريقٌ من الباحثين بجامعة ستانفورد الأمريكية، فإن الخزعات السائلة التي تقيس الحمض النووي الريبي الحر في البلازما (cfRNA) توفر فرصةً لدراسة تطوُّر المضاعفات المرتبطة بالحمل بطريقة غير جراحية، بما يساعد على سد الثغرات في الرعاية السريرية؛ إذ يمكن للحمض النووي الريبي الحر في البلازما الكشف عن مقدمات تسمُّم الحمل قبل ظهور الأعراض الإكلينيكية بشهور.

يقول ديفيد .ك. ستيفنسون -الباحث بقسم طب الأطفال في كلية الطب بجامعة ستانفورد، والباحث الرئيسي في الدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": أظهرت النتائج أن التغيُّرات في التعبير الجيني للحمض النووي الريبي الحر في البلازما بين الأمهات اللاتي لا يعانين من اضطرابات ضغط الدم والأمهات المُقْدِمات على الارْتِعاج تكون ملحوظةً ومستقرةً في وقت مبكر من الحمل، وقبل ظهور الأعراض بوقت طويل.

ويتابع: تمكنَّا من تحديد مجموعة من 18 جينًا، ويمكن أن يمثِّل تتبُّع تلك الجينات خلال فترة تتراوح بين 5 أسابيع و16 أسبوعًا من الحمل أساسًا لاختبار الخزعة السائلة التي من شأنها تحديد الأمهات المعرضات لخطر تسمم الحمل قبل وقت طويل من ظهور الأعراض السريرية، ويمكن أن تساعد الاختبارات المستندة إلى هذه الملحوظات في التنبؤ بالنساء المعرَّضات لخطر تسمم الحمل وإدارة حالاتهن، ويُعد هذا هدفًا مهمًّا للرعاية التوليدية، ويتضمن ذلك إنقاذ حياة الأم وحمايتها من مضاعفات الحمل.

ويشير الباحثون إلى أنه "لا يوجد حتى الآن اختبار موصى به يمكن أن يتنبأ بالظهور المستقبلي لمقدِّمات الارْتِعاج في وقت مبكر من الحمل، لكن الخزعات السائلة التي تقيس الحمض النووي الريبي الحر في البلازما قد تكون وسيلة، سواء في تأكيد تسمم الحمل عند التشخيص السريري أو في احتمالات حدوثه في وقت مبكر من الحمل، ويساعد التنبؤ بمقدِّمات الارْتِعاج في وقت مبكر على وضع خطة علاجية ربما لا تزيد عن مداومة الحصول على جرعة منخفضة من الأسبرين".

«الحمض الريبي» قد يُسهم في التنبؤ بـ«مقدِّمات الارْتِعاج»

كما تُستخدم "كبريتات المغنيسيوم" في منع تطور تسمم الحمل، وفق دراسة سابقة أُجريت عام 2010، وضمت 11444 سيدة، وانتهت إلى أن "كبريتات المغنيسيوم" يمكنها أن تقلل خطر الإصابة بتسمُّم الحمل بأكثر من النصف، وقد تقلل من خطر وفيات الأمهات.

مراقبة مقدِّمات الارْتِعاج

يقول "ستيفنسون": الحمض النووي الريبي الحر في البلازما مشتقٌّ من العديد من الأنسجة في الجسم، ويمكن أن يكون وسيلةً محتملةً لمراقبة مقدِّمات الارْتِعاج وتحديد التغيُّرات الفسيولوجية المرتبطة بتسمُّم الحمل.

ولتحديد التغييرات المرتبطة بـ"مقدِّمات الارْتِعاج" قبل التشخيص التقليدي بوقت طويل، تتبَّع الباحثون 199 سيدة (142 سيدة يتمتعن بضغط دم معتدل، و57 سيدة يعانين من تسمم الحمل) من الأمهات الحوامل في أول زيارة إكلينيكية لهن إلى مستشفى "لوسيلي باكارد" للأطفال في ستانفورد؛ حيث تم سحب 404 عينات دم منهن لتحديد التغيرات التي تحدث في الحمض النووي الريبي الحر في البلازما، والتي ترتبط بـ"مقدِّمات الارْتِعاج" والتحقُّق منها.

بعد ذلك، أجرى الباحثون تحليل "الحمض النووي الريبي الحر في البلازما" للعينات التي تم جمعها قبل أو بعد 12 أسبوعًا، وبين 13 و20 أسبوعًا، وفي -أو بعد- 23 أسبوعًا من الحمل، وبعد الولادة.

قسم الباحثون أفراد العينة إلى ثلاث شرائح: مجموعة كاشفة، ومجموعة التحقق الأولى، ومجموعة التحقق الثانية، وضمت المجموعة الكاشفة 73 سيدةً (49 ضغط الدم لديهن معتدل، و24 مصابات بمقدمات الارتعاج)، وضمت مجموعة التحقق الأولى 39 سيدة (32 ضغط الدم لديهن معتدل، و7 سيدات يعانين من تسمم الحمل)، أما مجموعة التحقق الثانية المستقلة فقد تم جمع هذه العينات من عدة مؤسسات منفصلة قبل 16 أسبوعًا من الحمل، وضمت 87 سيدة (61 سيدة الضغط لديهن معتدل، 26 يعانين من تسمم الحمل)، واشتملت جميع الشرائح على أفراد من خلفيات عرقية وإثنية متنوعة بنسب متطابقة تقريبًا عبر المجموعات اللاتي تعاني من تسمم الحمل والأخرى التي تتمتع بضغط دم معتدل.

الجهاز المناعي

يقول "ستيفنسون": أظهرت الدراسة أن الصفائح الدموية والخلايا البطانية تؤدي إلى حدوث تغيُّرات في "الحمض النووي الريبي الحر في البلازما" في العينات التي تعاني صاحباتها من تسمم الحمل، بغض النظر عن شدة الأعراض مقارنةً بالعينات المسحوبة من النساء ذوات الضغط المعتدل، وكذلك بين النساء اللاتي يعانين من تسمم الحمل -مع أعراض شديدة ومن دونها- خاصةً قبل 20 أسبوعًا من الحمل، ويُسهم الجهاز المناعي الفطري والتكيُّفي بقوة في التغيُّرات التي تحدث في الحمض النووي الريبي الحر في البلازما في حالات الإصابة بـ"مقدِّمات الارْتِعاج"، كما تظهر تغيرات ملحوظة تتعلق بنخاع العظم، والخلايا التائية، والخلايا البائية، والخلايا المحببة (أحد أنواع خلايا الدم البيضاء)، والعدلات.

وتُري تغيرات الحمض النووي الريبي الحر في البلازما التي تم توصيفها في هذا البحث، اختلالًا وظيفيًّا في نظم خمسة أعضاء على الأقل (الدماغ والكبد والكلى والعضلات ونخاع العظام)، ويمكن في بعض الحالات التمييز بشكل أكبر بين تسمم الحمل المصحوب بأعراض شديدة ومن دونها.

يعلق "ستيفنسون": تقدم الخزعات السائلة إذًا فرصةً باعتبارها أداةً بحثيةً وأداةً إكلينيكيةً لكشف مقدِّمات الارْتِعاج والتنبؤ بصحة الأم.

التنبؤ بخطر الإصابة

وتتفق نتائج الدراسة الجديدة مع بحث نشرته دورية "نيتشر" (Nature) أيضًا في يناير الماضي، وأكدت قدرة "الحمض النووي الريبي الحر في البلازما" على الكشف عن أنماط تقدُّم الحمل الطبيعي وتحديد مخاطر الإصابة بتسمم الحمل قبل أشهر من العرض السريري؛ إذ أظهرت نتائج البحث أن بصماته المأخوذة من سحب عينة دم واحدة يمكنها التنبؤ بسير الحمل على مستويات المشيمة والأم والجنين، وأن تعطي تنبؤات محكمة بحدوث تسمم الحمل بدقة تبلغ 75%.

كما أوضح البحث الذي تم خلاله تتبُّع 1840 حالة حمل في سيدات من أعراق مختلفة أن "بصمات الحمض النووي الريبي الحر في البلازما في حال تسمُّم الحمل تُسهم فيها سمات جينية مرتبطة بالعمليات البيولوجية التي تؤدي دورًا في الفسيولوجيا المرضية الكامنة وراء هذا التسمم"، مؤكدين أن "تحليل الحمض النووي الريبي الحر في البلازما للأم والجنين والمشيمة يمكنه التنبؤ بخطر الإصابة بمقدِّمات الارْتِعاج في 75% من الحالات وخطر الولادة المبكرة بالمعدل نفسه تقريبًا".

من جهته، يرى عمرو نديم -أستاذ طب النساء والتوليد بكلية الطب بجامعة عين شمس- أن "الدراسة الأخيرة مهمة جدًّا رغم أنها ليست الأولى من نوعها".

نتائج مهمة

يقول "نديم" في تصريحات لـ"للعلم": من المعروف أن ارتفاع ضغط الدم المسبِّب لتسمُّم الحمل يحدث في الأسبوع الـ20 من الحمل، لكن في بعض الأحوال النادرة مثل حالات الحمل بتوأم أو حالات الحمل العنقودي (نمو غير طبيعي داخل الرحم) تتطور المشيمة وتنقسم إلى مجموعة من الحويصلات التي لا ينتج عنها جنين، يمكن أن تظهر أعراض تسمُّم الحمل قبل الأسبوع الـ20، لكن حتى هذه اللحظة ليس لدينا طريقة مؤكدة نستطيع أن نلجأ إليها للتنبؤ بأن سيدة معينة قد تصاب بارتفاع ضغط الدم في أثناء الحمل وما يصحبه من عواقب وخيمة قد تهدد حياتها أو تؤثر على بعض أعضاء الجسم مثل المخ، والكبد، والكلى، وشبكية العين، وهذه الطريقة الجديدة البسيطة التي تقوم على فصل الحمض النووي الريبي الحر في البلازما خلال فترة تتراوح بين 5 أسابيع و16 أسبوعًا من الحمل قد تمكِّن من بلورة تحاليل تساعدنا على التعرف إلى أي مدى يمكن أن تكون هذه السيدة معرضة لتسمُّم الحمل وتداعياته، وبالتالي اتخاذ بعض التدابير والخطط العلاجية لتفادي حدوث المرض أو حدوثه بأعراض خفيفة.

بدوره، يقول روبير إميل دانيال -استشاري أمراض النساء والولادة وعلاج العقم- في تصريحات لـ"للعلم": الدراسة اعتمدت على وسائل علمية سليمة، وتتيح تشخيص تسمم الحمل في وقت مبكر جدًّا من الحمل، وبالرغم من أن بعض أجهزة الأشعة التليفزيونية رباعية الأبعاد يمكنها الكشف عن احتمالات حدوث تسمُّم الحمل بدايةً من الأسبوع الثاني عشر من الحمل، إلا أن النتائج لا تكون بتلك الدقة التي توصل إليها الباحثون في هذه الدراسة.