تونس: حل المجلس الأعلى للقضاء بين الرفض والتأييد كلمات مفتاحية

تونس ـ «القدس العربي»: ازدادت الأزمة السياسية التونسية تعقيدا بإعلان رئيس الجمهورية قيس سعيد عن حل المجلس الأعلى للقضاء وإغلاق مقره بوجه أعضائه وموظفيه، وذلك بتعلة موالاة بعض أعضائه لأطراف سياسية في خلاف مع ساكن قرطاج، وأيضا بتعلة عدم قيام المجلس بواجباته، وهو ما أعاق برأيه النظر في عدة ملفات حارقة مثل ملف الاغتيالات السياسية وملف تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر للقتال مع الجماعات التكفيرية. وكالعادة فقد اختلف التونسيون بشأن قرار الحل بين مؤيد يعتبر الخطوة ضرورية ولا بد من القيام بها لإصلاح منظومة 14 كانون الثاني/يناير 2011 وبين رافض يخشى من تغول الرئيس وذهابه باتجاه ديكتاتورية جديدة تقطع مع المكتسبات الديمقراطية التي عرفتها تونس خلال العشرية الماضية.

ويعتبر المؤيدون لقرار الحل أن هذا المجلس كان خلال العشرية الماضية عنوانا لسيطرة طرف سياسي بعينه على السلطة القضائية وتوجيهها لخدمة مصالحه على حساب البلد والقوى السياسية المنافسة، وبالتالي، وبحسب هؤلاء كان من الضروري حل المجلس وتخليصه من هيمنة بعض القوى السياسية والاستعداد لانتخاب مجلس جديد بعد نهاية خريطة الطريق التي أعلن عنها رئيس الجمهورية، وفي الأثناء يقع البتّ في الملفات القضائية التي تعطل فتحها بعد أن يتم تعيين قضاة آخرين في المفاصل الهامة والحساسة للجهاز القضائي.بالمقابل يرى المعارضون للحل أن رئيس الجمهورية لا يمتلك صلاحية حل المجلس الأعلى للقضاء، ولا يوجد نصّ دستوري أو قانوني يخوّل له أن يحل مؤسسة دستورية منتخبة من قبل رجال القانون في البلاد والذين وجب احترام اختياراتهم الانتخابية. وبالتالي فإن قرار الحل، وحسب هؤلاء باطل وغير شرعي ولا يجب الإستجابة له بأي حال من الأحوال لأن ذلك سيؤدي برأيهم، إلى العودة من جديد إلى الاستبداد من خلال جمع رئيس الجمهورية لكل السلطات بيده بدون رقيب أو حسيب يمكنه التصدي لأي حيف قد يصدر عن الرئيس.ويؤكد هؤلاء على أنه لم يسبق في تاريخ تونس أن جمع رئيس جمهورية كل هذه الصلاحيات بيده بما في ذلك الراحل زين العابدين بن علي، وأن آخر من كان حاكما مطلقا في تونس هو الملك محمد الصادق باي الذي تم استعمار تونس في عهده سنة 1881 لأن الملوك الذين حكموا من بعده قام الاستعمار الفرنسي بالحد من صلاحياتهم لصالح ما يسمى «المقيم العام» الذي كان يمثل السلطات الاستعمارية بالمملكة التونسية في ذلك الوقت. وبالتالي فإن ساكن قرطاج بات برأيهم ملكا متربعا على عرش حامل لصفة رئيس للجمهورية، ووجب بالتالي الضغط في هذا الإطار لتصويب الأمور وإعادة المؤسسات الدستورية إلى سالف عهدها وإلا عادت البلاد إلى الاستبداد وجاز بكل أسف إعلان نهاية أول ديمقراطية عربية غير طائفية وغير محروسة من مؤسسة ملكية أو عسكرية.ويؤكد هؤلاء أن المجتمع ومن خلال صمته على بعض التجاوزات شجّع بن علي على المضيّ قدما في استهدافه للحياة السياسية والتحول مع الوقت إلى مستبد حرم تونس من أن تصبح باكرا دولة ديمقراطية باعتبار توفر مقومات عديدة كانت تؤهل الخضراء إلى ذلك منذ مطلع الثمانينات لم تكن متوفرة في محيطها، ومنها جودة التعليم الذي كرسته دولة الاستقلال والذي خلق وعيا جماهيريا لافتا، ونضج المجتمع المدني والسياسي من خلال مراكمة التجارب، وتوفر نخبة حداثية مستنيرة قادرة على تحمل مسؤولياتها في عملية بناء نظام ديمقراطي فعلي. وبالتالي وجب، بحسب هؤلاء، عدم تكرار نفس السلوك مع قيس سعيدـ أي الصمت على التجاوزات، حتى لا تسقط البلاد من جديد في مستنقع الاستبداد الذي قد يصعب لاحقا لجمه إذا ما استفحل وهيمن على جميع مفاصل الدولة.ولعل السؤال الذي يطرح بإلحاح هو ذلك المتعلق بمدى قدرة القضاة الرافضين لحل المجلس الأعلى للقضاء والأحزاب المساندة لهم على إجهاض قرار الحل في ظل الظروف غير المساعدة على ذلك، باعتبار أن هناك أيضا من القضاة من يدعم ضمنيا قرار الحل، وأن الهيئة الوطنية للمحامين لا تساند الراغبين في إجهاض قرار الحل في مسعاهم ذاك ولا تتخندق معهم. كما يعرف القاصي والداني شخصية الرئيس قيس سعيد «العنيدة» التي تجعله يذهب بعيدا في تنفيذ قراراته ولا يعبأ بالضغوط الداخلية والخارجية، وهو ما تجسد في إصراره على تجميد البرلمان منذ يوم 25 تموز/يوليو رغم كثرة الضغوط والتي لم تنقطع إلى اليوم.لا توجد إذن خيارات عديدة متاحة أمام القضاة الرافضين لحل المجلس الأعلى للقضاء وعلى رأسهم أعضاء المجلس نفسه وجمعية القضاة التونسيين وبعض الجمعيات الأخرى خارج إطار البيانات والاحتجاجات والاضرابات. وحتى فيما يتعلق بالاضرابات التي بإمكانها التأثير أكثر من غيرها بسبب قدرتها على تعطيل مرفق عام العدالة لا يمكن أن تطول في الزمن لتصل إلى الشهرين أو ثلاثة مثلما حصل خلال السنة الماضية احتجاجا على تحسين الأوضاع المهنية والمعيشية، باعتبار أن نقابة القضاة التي ينضوي تحتها عدد هام من قضاة تونس لا ترفض قطعيا حل المجلس الأعلى للقضاء ومواقفها متميزة عن مواقف جمعية القضاة والجمعيات الأخرى الرافضة للحل.كما أن للمحامين ثقلهم المعنوي باعتبار أن الدستور التونسي نصّ صراحة على أن المحامين والقضاة هما جناحا العدالة، وعدم انخراط الهياكل الرسمية للمحاماة في جبهة الرفض لحل المجلس الأعلى للقضاء قد يضعف من هذه الجبهة كثيرا. فنسبة من المحامين تعتقد أن المجلس الأعلى للقضاء بتركيبته تلك قد همش قطاع المحاماة وجعل صوته غير مسموع رغم أن هذا القطاع كان في طليعة الفاعلين في الإطاحة بنظام بن علي وكان من الرباعي الذي رعى الحوار الوطني سنة 2013 إلى جانب الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف ورابطة حقوق الإنسان، ونالت هذه المنظمات لاحقا جائزة نوبل للسلام بعد أن أنقذت البلاد من حرب أهلية كادت أن تعصف بها.ويبدو أن الضغوط الدولية هي وحدها التي قد تؤثر في قرارات الرئيس وتجعله يتراجع قليلا عن مسعاه لإنهاء وجود المجلس الأعلى للقضاء، ويذهب فقط باتجاه تغيير تركيبته من خلال إبعاد من تحوم حولهم شبهات فساد من أعضائه أو لديهم ارتباطات بأطراف سياسية نافذة تتهم بعرقلة سير مرفق عام القضاء. فالخارج، وتحديدا بلدان أمريكا الشمالية والاتحاد الأوروبي، هو مانح للدولة التونسية لأموال طائلة خلال العشرية الماضية وعبر عن انزعاجه في أكثر من مناسبة من فرضية أن تعم الفوضى وتصبح الدولة التونسية غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها في سداد أقساط قروضها. كما أن من بين هذه الدول من دفع أموالا طائلة من أجل تطوير وإصلاح السلطة القضائية في تونس وعبر عن امتعاضه من حل المجلس الأعلى للقضاء خاصة وأن دافعي الضرائب في هذه البلدان سيحاسبون حكامهم عن هذه الأموال التي صرفت من أجل إنشاء سلطة قضائية لم يعد لها وجود على أرض الواقع. لذلك كان بيان سفراء هذه الدول شديدا بعض الشيء ولم يعتد التونسيون في السابق على كل هذه التدخلات الصريحة في شؤونهم الداخلية التي برزت خصوصا في السنوات الأخيرة بالتزامن مع تدهور الوضع الاقتصادي وبروز حاجة البلاد إلى الاقتراض والتداين.

تونس: حل المجلس الأعلى للقضاء بين الرفض والتأييد كلمات مفتاحية