الفاعل الاجتماعي: رؤية نقدية في ضوء تحديات المشهد الفلسطيني(*) - CAUS - مركز دراسات الوحدة العربية

مقدمة:

تُعَد الساحة الفلسطينية من أكثر المشاهد السياسية والاقتصادية والاجتماعية تغيُّراً، ما يجعل الثبات حالة من الاستثناء، نظراً إلى خصوصية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على مدار أكثر من 100 عام، وما تتركه هذه الخلفية من الصراع على البنى السياسية والاجتماعية – وبالتالي الخدماتية – فيها، وتنوع معطياتها وفقاً للسياق والمتطلب. فالبيئة التي تجتاحها موجة من الصراع تولِّد العديد من المشاكل النفسية والاقتصادية والسياسية والانكشاف على مختلف الصعد الاجتصاسية. في مقابل ذلك، وفي خضم الاشتباك اليومي للمستعمَر مع المستعمِر تتداعى بنى ويحل مكانها بدائل تكيفية إيجابية، لتشكل سوسيولوجيا «التكييف المقاوم»[1] كشكل قيمي أخلاقي ووطني، عُبِّر عنه في تجربة الانتفاضة الشعبية عام 1987، وعام 2000، والعدوان على مخيم جنين ونابلس وقتل المكان فيهما عام 2002، والعدوان على غزة في حروب متتالية 2008، 2012، ومؤخراً 2014، كان أبرزها إعادة إحياء الثقافة التضامنية والعونة والأعمال التطوعية التي انخرطت فيها العائلة وشبكة العلاقات القائمة على القرابة والحزب السياسي والمؤسسات الأهلية والاجتماعية والإغاثية والأحزاب بمساهمات متفاوتة وبمراحل تاريخية مختلفة.

إن من أهم ملامح السياق الفلسطيني التغير السريع نتيجة السياسات الكولونيالية الإسرائيلية المتتالية بعد اقتلاعه من جذوره عام 1948 وتعرضه لعملية «تطهير عرقي مستمرة» وبناء دولة الكيان على أنقاض مدن فلسطين وقراها التاريخية، وتحول أكثر من ثلثي المجتمع الفلسطيني من فلاح إلى لاجئ، وتعرُّضه لعملية فقدان قيمة أساسية وهي الأرض كقيمة محسوسة وملموسة، كما يفسرها فرانتز فانون في كتابه معذبو الأرض[2]، الأرض التي تعني عند المستعمَر الخبز والكرامة، والتي تختلف عن الكرامة الإنسانية التي يفهمها المستعمِر؛ فالفلسطيني بالسياق نفسه يُجوَّع ويُلطَم ويُسجَن ويُعذَّب ويطارد ويُهدَم منزله بغير ذنب جناه، فتُنتهَك كرامته القومية ولا يمكن أن يستعيدها إلا من خلال مواجهة المستعمِر كشرط وجودي للشفاء من الحرَج النفسي الذي سببه المحتل.

إن فقدان الفلسطيني للأرض، وما يرتبط بها من منظومة قيمية وأخلاقية تشكل شبكة الأمان والاستقرار له ولمرجعيته الأخلاقية، وما أصاب العائلة الممتدة من تغييرات جوهرية في وظيفتها وبنيتها نتيجة التشتت في البلدان العربية أو الداخل (داخل فلسطين التاريخية) أو في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وتحول الأخير إلى أكبر تجمع يحتضن كثافة سكانية في العالم، فاحتضن الفقر والبؤس والعنف السياسي الممارس ضده، وكروب الصدمات النفسية والاجتماعية، والبطالة المدقعة نتيجة إرهاب الدولة الصهيونية، وعزلته الفكرية والثقافية على مدار 47 سنة بعد احتلاله عام 1967.

أما القرى والمدن الفلسطينية في القدس وفلسطين التاريخية، فتعرضت لعملية تذويب وتطويع وتمييز عنصري ممنهج، استُهدفت فيه ثقافته ولغته ومنهاجه التعليمي[3] وانتماؤه العروبي الفلسطيني وكرامته الشخصية والوطنية وتم سحق إنسانيته وتشظت هويته وأسلوب حياته[4]، ولكنه كان يدرك فلسطينيته حينما ينتقل من حيه الفقير إلى حي المستعمرين، فيعنفه الأسفلت والعمارات والشوارع المعبدة ونظرات المستعمرين ليدرك انفصامه وانسلاخه عن الواقع الذي يريد، وبقدر ما تتعاظم مظاهر التحييز والقوانين التعسفية تجاه الفلسطيني بقدر ما يرتد العنف إلى المستعمرين لأنه من صنيعتهم.

أما السياقات التاريخية في المناطق المحتلة في الضفة الغربية وغزة والقدس فارتبطت بإلحاقها بالأردن وغزة بمصر بعد عملية التطهير العرقي في عام 1948، وفيما بعد تم احتلالها عام 1967، وبقيت القدس مؤجلة مع القضايا الجوهرية والأساسية في الصراع، وخضعت مناطق الضفة الغربية تحت سلطة الحكم الذاتي بعد اتفاقية أوسلو في مناطق بما تعرف بـ (أ. ب. ج) نتيجة تقسيمات أوسلو عام 1993‏[5]، وهمشت مناطق (ب. وج) ببنيتها التحتية والخدمات الأساسية نتيجة لعدم فرض السلطة الفلسطينية هيمنتها عليها، وانعكس ذلك على مستوى خدمات الرعاية لها، ولا تتوافر إحصاءات دقيقة حول عدد السكان بها، ولكن تم تقديرهم من قبل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) بنحو 300.000 فلسطيني[6]، جميعهم محرومون من جملة من الخدمات الأساسية وسوء البنية التحتية ونظام التغذية نتيجة السياسات الاستعمارية المفروضة عليهم، فكان الاستعمار الإسرائيلي معوقاً أساسياً لاستمرارية تطور تلك المناطق وإشباع حاجاتها المرتبطة ببنيتها الزراعية.

شكلت المؤسسات الدولية كوكالة الغوث الدولية بخدماتها المتعددة، والفلسطينية كالهلال الأحمر والإغاثة الزراعية، وبعض قطاعات السلطة بوزارة الصحة والزراعة والتعليم والشؤون الاجتماعية والمرأة، وبعض مؤسسات المجتمع الأهلي المرتبطة بالقطاعات السابقة الرافد الأساسي في تقديم الخدمات الإغاثية والتشغيلية والخدماتية، وكان وجود الإخصائي الاجتماعي في كل المناشط والحاجات المجتمعية، فعمل في مشاريع الإقراض، برامج الإغاثة ومحاربة الفقر، والإرشاد المدرسي والأكاديمي والنفسي. وبالرغم من أهمية هذا التخصص «الإخصّائي الاجتماعي» في سياقنا الفلسطيني، إلا أنه لم يرتقِ لمرحلة «الفاعل الاجتماعي» المؤثر في السياسات الاجتماعية والاقتصادية، نتيجة البيئة المعادية والمعوقة له المرتبطة بالاستعمار، والعادات والتقاليد، والسلطة وسياساتها، وتهميش التأطير القانوني والنقابي والمهني للإخصّائيين وإمكان حمايتهم، إلى جانب الإطار النظري والفكري والمهني الذي يتكئ عليه الإخصّائي الاجتماعي وهو الأهم، فكان أقرب إلى تطبيق السياسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منه إلى الاشتباك معها ومناهضتها إذا تعارضت مع الكرامة الإنسانية الفلسطينية.

في ما يلي سنعرج إلى مفاصل أساسية وحيوية تعيق وتهمش من دور العامل الاجتماعي ارتباطاً بالسياق الفلسطيني، برؤية نقدية تحاول التركيز على أهمية العامل الاجتماعي في السياق الفلسطيني بشموليته، لا على أساس التعامل مع الحالات الفردية (كحقوق الأطفال والمهمشين، والمرأة المعنفة، والفقر) رغم أهميتها، إلا أنها تقسم المجزأ وتبعثر الجهود الرامية إلى بناء مجتمع قائم على العدالة والتنمية والتخطيط، والذي يفترض أن يكون الفاعل الاجتماعي واعياً وجاهزاً لمتطلبات هذه الإزاحة في التفكير والتشخيص والممارسة.

أولاً: مشاكل قديمة جديدة وعجز السلطة عن المساهمة في وضع الحلول

لا أحد يختلف على أن الاستعمار الإسرائيلي كان له الدور الأساسي والرئيسي في صياغة المشهد الفلسطيني ببنيته الاقتصادية والسياسية المنكشفة والتابعة، وتنامي المشاكل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية تحت الاستعمار، وعدم إمكان استغلال الفلسطيني لموارده الطبيعية أو حتى البشرية، نتيجة لإلحاقه بشكل قسري باتفاقيات سياسية (اتفاقية أوسلو) وبروتوكولاتها الاقتصادية ممثلاً باتفاقية باريس، والتي حرمت السلطةَ الناشئة أهم قطاع حيوي يساهم في تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين، ونشأت السلطة بتوازٍ مع تبنيها مبادئ السوق الحرة والدور الهامشي للدولة العتيدة في مراقبتها وحمايتها للأسعار والسيطرة والتوجيه للمشاريع الاستثمارية والتنموية، ما قدّمها كبنية ضعيفة وهشة أمام مشاكل الفقر والعنف المجتمعي وقضايا التمييز تجاه المرأة، وعلى صعيد خدماتها النفسية ممثلة بالمستشفيات النفسية والعقلية. فلم تساعد تلك الإمكانات ولا نوعية الإدارة للمؤسسات الاجتماعية على تطوير هذا القطاع من الصحة النفسية للمواطنين بصورة فاعلة، مع أهمية إبراز ووجود تطور في المرافق والأقسام فيها ولكنها بحاجة إلى تطوير.

بخصوص النظام التعليمي، وتراجع وتضييق مساحات التفكير في جهازه، لم يَحُلْ دور الإخصّائي في التعامل مع المشكلات اليومية ومشاكل العنف المجتمعي، دون قدرته على وضع حلول جذرية له، ويعود ذلك إلى غياب المؤسسات المهنية الداعمة والرافدة له، باعتبار أن الواقع الفلسطيني مولِّد للعنف والصراع وغياب العدالة بمختلف أشكالها. هذه العوامل مرشحة لتصاعد وتيرة العنف المجتمعي والسياسي، ناهيكم عن الإشكاليات الوطنية والسياسية التي تم تفريغها في المنهاج الفلسطيني، الأمر الذي يهدد الأسس العملية والرئيسية للهوية الوطنية[7].

إن دخول الإخصائي أو الممارس الإكلينيكي أو العامل التنموي على خط الخدمات النفسية والاجتماعية والتنموية ما زال محدوداً، نظراً إلى المعوقات الداخلية المرتبطة بالتركة الموروثة؛ من العادات والتقاليد التي لم تستوعب بعد أهمية هذه التخصصات، ودورها الأساسي في كسر العوائق النفسية والاجتماعية في بناء مجتمع العدالة والرفاه، ومعوقات أخرى مرتبطة بوجود تخصصات مهنية متعددة تستجيب لمتطلبات ووظائف وأدوار جديدة لهم، إلى جانب تقليدية البنية التعليمية والمنهجية في التعليم المدرسي والجامعي.

الفاعل الاجتماعي: رؤية نقدية في ضوء تحديات المشهد الفلسطيني(*) - CAUS - مركز دراسات الوحدة العربية

تُعَد الأسرة «العائلة» الرافد الأساسي لحل المشكلات المجتمعية والفردية التي يواجهها الفلسطينيون والتي صمدت حتى الآن في ظل غياب «الدولة!»، فقد أدّت تاريخياً دوراً مهماً في التخفيف عن معاناة أبنائها في خلق فرص حياة أو عمل، ومؤازرة الأسير والجريح والمُعنف سياسياً، وتشكيل شبكات الدعم النفسي والمجتمعي جنباً إلى جنب مع اللجان الشعبية في انتفاضة عام 1987، والاجتياحات في عام 2000 ولجان الأحياء والقرى، والتي مارست دوراً في امتصاص الشحنات السلبية للصراع، ودعهما النفسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي للمتضررين نتيجة الصراع.

لم تكن السلطة بعد تأسيسها عام 1994 على دراية بالحاجات والمتطلبات الخاصة لبناء دولة ترزح تحت الاستعمار، فغياب التخطيط الاستراتيجي والتنموي لها جعل منها دولة اقتصاد ريعي، اقتصادها تابع لدولة الاستعمار الإسرائيلي وقوانينه المرتبطة باتفاقيات سياسية، إضافة إلى ضعف كوادرها ومؤسساتها المرتبطة بالزبائنية والفئوية، والتي انعكست على مؤسسات الرعاية والخدمات وعلى ضعف أدائها وتشوهها، إلى جانب تبنيها الضمني للحلول التقليدية التي لم تحمِ الفاعل الاجتماعي بالقيام بدوره، وخصوصاً في القضايا المرتبطة بالقتل على خلفية ما يدعى «بالشرف»، فهو ليس محمياً لا من الناحية القانونية ولا العشائرية.

إن التحديات الأساسية التي تواجه العاملين في الحقل الاجتماعي والإنساني تتمثل بمظاهر أهمها: الفقر والعوز والحرمان من القدرة باعتباره سبب اللوثات الاجتماعية والنفسية، إلى جانب التهميش والجريمة والفساد كلها مرشحة للتصاعد والتنامي في غياب العدالة الاجتماعية ونظام الضمان الاجتماعي وعدم تطبيق القانون على الحالات المتجاوزة للحقوق والقوانين. ينسحب الموقف والرؤية نفسها بصورة مضاعفة على المناطق المعروفة بـ «ب». و«ج» في الضفة الغربية، والتي تشكل 82 بالمئة من حجم الضفة الغربية، والتي لا تملك السلطة كامل الصلاحيات ولا الخدمات بما يعادله في المناطق المعروفة بـ (أ). في إطار سد الفجوة ومعالجة التحديات في تلك المناطق من قبل السلطة، استجاب وتفاعل الكثير من الفاعلين في الحقل المجتمعي لحاجات تلك المناطق في استحداث مشاريع تنموية صغيرة وبرامج اجتماعية توعوية مستهدفة بذلك رأس المال الاجتماعي في صفوف الشباب والنساء، وبالرغم من أهمية ذلك، إلا أنه لا يوفر لقمة العيش للشباب ولا يزودهم بمهارات جديدة تفتح لهم آفاقاً وإمكان إيجاد فرص عمل، وهذا يرتبط بارتهان مشاريع تلك المؤسسات لروشيتة البنك الدولي وأذرعها ووصفاته الليبرالية والتي تقوم على تنفيذ سياستها من قبل المؤسسات الأهلية الفلسطينية.

لم يتوقف الأمر عند ذلك فحسب، بل ساهمت المؤسسات الدولية كالبنك الدولي ومساعدات (!) الشعب الأمريكي (USAID) وغيرها في تأبيد وتعزيز الامتداد السرطاني من حيث دعم مشاريع البنى التحتية مثل شبكة المواصلات والشوارع التي تعزز بدورها سياسة الفصل العنصري القائم عليها الكيان الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال، ساهم البنك الدولي في شق شارع يتجاوز خط 60 (المخصص الآن للمستعمرين الإسرائيليين) للوصول إلى قرية بتير ونحالين وربطها بمدينة بيت لحم، والكثير من الأمثلة التي نستطيع أن نسوقها في هذا المجال كما هو المشروع وخط المواصلات بين نابلس وطولكرم، حيث تشي تلك المنح والدعومات في تكريس سياسة الفصل العنصري وتحسين صورته عالمياً، خصوصاً في «المناطق المحتلة عام 1967».

في ما يتعلق بالقدس، فقد تم عزل ومحاصرة وتفريغ وإغلاق المؤسسات الفلسطينية المقدسية منها، والتي كانت فاعلة قبل اتفاقية أوسلو؛ من مراكز بحثية وخدماتية وثقافية واجتماعية واقتصادية. فمنذ عام 2000 تم إغلاق أكثر من 30 مؤسسة فلسطينية على رأسها بيت الشرق وجمعية الدراسات العربية والغرفة التجارية… إلخ. ويهدف الاستعمار الإسرائيلي من ذلك قتل وصهْينة المكان عبر تلك السياسات، فهدم المنازل والتضييق على السكان بقوانين صارمة هي لغة التعامل هنالك. ولا يختلف الأمر كثيراً بمناطق فلسطينيي 48، حيث تم محاصرة ومراقبة أموال المؤسسات الوطنية، التي يعمل جزء منها في مناهضة مظاهر التمييز والعنصرية والقضايا القانونية المرتبطة بها وبخصوصيتهم الاجتماعية والاقتصادية[8]، إلى جانب قتل إمكان التواصل الجغرافي والمعلوماتي والمهني بين الفلسطينيين (الضفة وغزة ومناطق فلسطينيي 48) في ضوء السياسات الاستعمارية العنصرية، وآخرها بناء جدار الفصل العنصري.

ثانياً: اختراق الاستراتيجية الوطنية؛ الهروب إلى الاجتماعي المجزأ ونسيان السياسي

إن دعم بعض الدول الأوروبية للشعب الفلسطيني قبل اتفاقية أوسلو، لم يكن مرهوناً برؤية سياسية بقدر ما كانت تعبِّر عن دعم ومساندة تلك الدول ممثلة بمؤسساتها وأحزابها للقضايا العادلة للشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال واستعادة حقوقه المسلوبة.

بعد عقد اتفاقية أوسلو عام 1993، دخل على المشهد الثقافي والسياسي المؤسسات الدولية من البنك الدولي والمؤسسات الأمريكية والكندية والألمانية والبريطانية والإسبانية، المحكومة بدعم استمرارية عملية السلام[9]، التي وظفت ضمن الرؤية الإسرائيلية للسلام، واشترطت على الفاعلين الجدد[10] من مؤسسات المجتمع الفلسطيني والسلطة الفلسطينية نوعية أنشطة وخدمات لم تشكل أولوية في ضوء خصوصية المشهد الفلسطيني، باعتباره لم يحقق الاستقلال الوطني ومن أولوياته هو التخلص من الاستعمار وتحديد الأولويات في ضوء الظرف السياسي لا أجندة الممول، فعملت علاقات القوى تلك على إخضاع المشاريع والبرامج بما يتلاءم مع رؤيتهم في الصراع، فحرفت تفكير تلك المؤسسات واهتمامها عن خلق مقوِّمات الصمود والنضال، فذهبت إلى مشاريع جزئية في تقديم الخدمات إلى المرأة، والطفل والشباب (الرياضة والفن والمسرح، خدمات بحثية وتنموية، وإرشاد نفسي وقانوني، ومؤسسات تدعم شريحة المعوقين والحوكمة والإصلاح القضائي والقانوني والديمقراطية وال السياسية)، ولو رجعنا إلى الوراء لوجدنا أن الشعب الفلسطيني كان من أكثر الشعوب العربية ً وفاعلية في المجال العام، بعد اتفاقية أوسلو وبداية المساعدات الأجنبية؟ فبعد استحداث وتأطير هذه الأنشطة لم يعد المجتمع الفلسطيني فاعلاً، وذلك عائد إلى عدم ربطه برؤية استراتيجية وطنية شاملة توضح الحلول للمشاكل المجتمعية وتحديات التنمية، لأن تلك المؤسسات تتعامل مع التنمية باعتبارها عملاً مهنياً أو ما يطلق عليه «مهننة التنمية»[11] من دون الغوص في فعاليتها وتأثيرها في البنية التحتية، الأمر الذي يجعلها أقرب إلى مجالات تحقيق نمو مرهون بمدى خدمته للرأسمال الصهيوني.

وفي حال تناول تلك المؤسسات لموضوعة الفقر، والبرامج العلاجية له، يتم التركيز كثيراً على مظاهره وتداعياته من غير الخوض في علاقات القوى بين المستعمَر والمستعمِر الذي تولد سياساته العنصرية والاقتصادية الفقر بأنواعه المختلفة، وإخفاء علاقة السياسة الاقتصادية للسلطة بإنتاج الفقر.

تعد وكالة الغوث الدولية من أهم المؤسسات التي عملت على محاربة الفقر ودعم الشرائح المحرومة تاريخياً منذ نشأتها، ولكن بدأت مؤخراً بتقليص خدماتها وتراجعها بعد اتفاقية أوسلو، باعتبار أن هنالك سلطة فلسطينية هي المخوَّلة بتقديم تلك الخدمات، إلى جانب التخلي عن الكثير من موظفيها في قطاعات مختلفة وتقليص الموازنة من ضمن مشاريع وكالة الغوث وبالتالي خدماتها. هذه الرؤية بدأت تنحرف عن مسارها في الرؤية، لا على صعيد الخدمات للمخيمات الفلسطينية في الضفة وغزة والقدس، وإنما على صعيد التعامل مع قضية اللاجئين باعتبارها قضية إنسانية فقط، لا سياسية أو وطنية، وهنا خطورة الموقف.

مثلت تلك المساعدات برامج إغاثية وخدماتية ومعلوماتية نظرية مجردة في الرأسمال الاجتماعي، لا تنموية إنتاجية أو فتح فرص حياة تحت ظروف الاستعمار؛ وعليه كانت عبارة عن «سياسة الإسعاف الأولي» لحاجات المجتمع الفلسطيني المستجدة في ضوء المرحلة التي لم تشهد يوماً استقراراً سياسياً.

يوجد في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس أكثر من 2770 مؤسسة أهلية[12]، ونحو 330 مؤسسة نسوية معظمها تأسس بعد 2006، والذي جعل من التساؤل لماذا هذه المؤسسات وما هي الحاجة والتأثير والفعالية لها على المجتمع الفلسطيني؟ إنه سؤال مشروع وجدي، والإجابة عنه تكمن دائماً في حجم الانتهاكات التي تعرضت لها المرأة والقتل على خلفية الشرف الآخذة بالازدياد. فقد سجلت 29 حالة في عام 2013، في حين كانت لا تتعدى 4 حالات عام 2011، فلماذا تصاعدت وتيرة العنف المجتمعي والجرائم المسماة «القتل على خلفية الشرف»؟

إن الكثير من المؤسسات التي تعمل في الديمقراطية وحقوق الإنسان تكاثرت بصورة متوالية هندسياً بعد عام 2006، الذي شكل جوهر عمل الإخصّائي ومرجعيته المهنية، إلا أن المفاهيم والرؤية مرتبطة بالجهة الممولة أكثر من حاجات المجتمع المحلي وأولوياته، فكيف يمكن الحديث عن حقوق الإنسان بمعزل عن السياق الاستعماري الذي ينتهك الوجود الإنساني؟

نستطيع تسجيل ملاحظة مهمة على تلك المؤسسات والاختصاصيين العاملين فيها – والتي نقدرها ونحترمها – في كونها حرفت مسار عملها واختصاصها إلى الجوانب الاجتماعية والمدنية والخدماتية، وانسحبت من الفضاء العام الذي يرسم المشهد سياسياً ووطنياً واقتصادياً، باعتبار ان تلك المؤسسات غير سياسية، فتم تفريغها سياسياً ووطنياً استجابة لرؤية الممول الذي خلق فاعلين جدد مفرغين سياسياً، وهذه قضية سياسية بامتياز، فتم قتل السياسي ثأراً للمدنية التي تم تهميشها في محطات تاريخية مهمة أبرزها الانتفاضة الشعبية عام 1987، وحضر السياسي فيها بقوة، فالمطلوب رؤية متوازنة بينهما دون هيمنة أحدهما على الآخر.

من المهم الإشارة هنا إلى أهمية إعادة قراءة تجربة الانتفاضة الشعبية عام 1987 في مقارنة مع البعد القيمي والثقافي المعاكس لها في انتفاضة الأقصى والاستقلال عام 2000، فالانتفاضة الشعبية دشنت مدرسة نضالية مرتبطة بمشروع وطني فانسجمت كل مفاصل الحياة في تدعيم المشروع التحرري الذي وجد في الفرد والجماعات الاجتماعية والسياسية مكاناً لها في الفعل المجتمعي، سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، فكانت المشاريع غير الممولة أوروبياً أو أمريكياً مرتبطة بحاجات المجتمع الفلسطيني في اقتصاد الصمود والمقاومة، فكان الاقتصاد المنزلي واستصلاح الأراضي الزراعية ومحو الأمية والتعليم الشعبي منسجماً برؤية تكاملية تجاوزت الأنساق السياسية والاجتماعية في تلك الفترة.

إن الخطاب الفكري للاختصاصي الاجتماعي – مع أهميته في التغيير الاجتماعي – إلا أنه ما زال مرهوناً برؤية ليبرالية إصلاحية، وذلك عائد إلى طبيعة عمله مع المؤسسات الدولية والمساعدات والتمويل للمؤسسات التي يعمل بها الإخصّائيون، فهي إطار إصلاحي متناغم مع الدولة الرخوة والسوق الحرة وتوجهات البنك الدولي. ولذلك انحسر دور تلك المؤسسات في الإصلاح القانوني والقضائي والتشريعات، وصب مباشرة في خدمة تدعيم النسق السياسي القائم على اللامساواة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لا على أرضية تفكيكه وتقديم رؤية جذرية له، ولعملية التغيير الاجتماعي المنشود.

وللتلخيص، نجد أن المؤسسات الفاعلة في المجال الإنساني والتنموي الفلسطيني ساهمت – بوعي أو بغير وعي في تحويل الفلسطيني واستلابه وإفقاره ثقافياً عن وسطه المعاش وتم استبدالها بمفاهيم الدمقرطة والأنسنة والمقاومة السلمية والعقلانية باعتبارها منتجاً ليبرالياً منسجماً مع البيئة الثقافية التي تم إنتاجها في الغرب[13]، وتذويباً وإفقاراً للثقافة المحلية وتفريغها السياسي من التعبئة في المشروع التحرري. ولهذا انسحب الفلسطيني من الحيز العام الذي اضمحل بنيوياً ووطنياً وهيمنت عليه تكنولوجيا التطويع واللجم المرتبطة بسياسات السلطة والاستعمار معاً.