ظاهرة اليمين المتطرف الغربي في مواجهة خطاب أسلمة التطرف: مساءلة الاستراتيجيات الأمنية الغربية(*) - CAUS - مركز دراسات الوحدة العربية

مقدمة:

تثير الهجمات الإرهابية المختلفة التي حدثت خلال العقدين الأخيرين من عام 2001 إلى عام 2019 في مختلف أنحاء العالم، سؤالاً محورياً حول هذا النزوع المتزايد نحو العنف والوحشية الناجمة عن الوجوه المختلفة للإرهاب والتطرف. ما يمكن وصفه السمة الغالبة في جميع العمليات الإرهابية التي يعرفها العالم، يكمن بالأساس في حجم الخسائر في صفوف المدنيين وتكريس كراهية الآخر. ومهما تعددت الدوافع والمسببات لا يمكن قبول أي تفسير يبيح أعمال عنف وترويع تزعزع استقرار المجتمعات.

لهذا، فالمجتمع الدولي مطالب بإدانة جميع أنواع الإرهاب، والقضاء على كل الدوافع والمحركات الرئيسية التي أسهمت في إنتاج كل التصورات الضاربة في التطرف والانغلاق، ومواجهة كل الصور النمطية عن الإرهاب الإسلامي الذي شاركت في إنتاجه أكثر فأكثر القناعات الغربية الراسخة ووسائل الإعلام الغربية التي اختزلت التطرف في الإسلام السياسي وجماعاته وتياراته، وسمحت في الوقت نفسه بانتشار التعصب والعنصرية وكراهية الأجانب عبر سياساتها الرسمية ومأسسة أحزابها اليمينية المتطرفة التي ركبت موجة الهوية الضيقة، بهدف الوصول إلى أصوات الناخبين مستغلة الأوضاع الاجتماعية السيئة. وقد سجل تقدم واضح للأحزاب اليمينية الشعبوية المتطرفة في السنوات الأخيرة، كحزب الجبهة الوطنية في فرنسا الذي أصبح القوة السياسية الثالثة، والذي يرفض التعايش مع المهاجرين، وبخاصة المسلمون، ويطالب بإرجاعهم إلى بلدانهم الأصلية. وقد مثل موضوع الهجرة حجر الزاوية لليمين الشعبوي لاستمالة الأجيال الجديدة من الشباب الأوروبي، والزجّ بهم في علاقات صراعية مع المهاجرين من أصول عربية مسلمة، وهو ما يفسر ارتفاع الكراهية وقيام أفراد ومجموعات محسوبة على هذا التيار بحوادث عنف مقصودة ضد المهاجرين.

إن فهم التطرف يقتضي مسبقاً فهم كل ما يلزم من السياق والتصورات التي ساهمت في تكريسه. حسب بعض الاتجاهات، يشير التطرف إلى مسارات التشكل والتنشئة، وفي حالات أخرى، قد يتعلق الأمر بمعاينة وتحليل النتائج، بمعنى إعطاء الأولوية للمخرجات الناجمة عن الممارسة العنيفة للجماعات المتطرفة. علاوة على ذلك، فإن التطرف لا يعني دائماً في دلالته ومعناه وغائيته ممارسة الإرهاب‏[1]. هذا النقص في الوضوح حول ماهية التطرف يشوّه فهم التطرف العنيف‏[2]، على وجه الخصوص عندما يكون هناك سوء فهم مركّب للعوامل الاجتماعية والسياسية والنفسية والثقافية التي تنطوي على تعقيدات واضحة تمثل تهديدات أمنية ذات أولوية كبيرة.

لا يوجد معنى واحد وقارّ لتعريف «التطرف» بنفس الطريقة والأسلوب؛ فبعض الاتجاهات، تعدّ الفعل العنيف هو حجر الزاوية الذي يستحوذ على اهتمامها ويحوز على الأولوية لديها، ولهذا ركزت أكثر على تداعيات العنف من دون الأخذ بعين الاعتبار أصل الأيديولوجيات المتطرفة. بالنسبة إلى الاتجاهات أخرى، فإن الأيديولوجيا التي قد تؤدي، أو لا تؤدي، إلى العنف هي محور الاهتمام الأساسي. وبالرغم من ذلك، فإن جميع التعريفات تدرك فكرة التطرف بوصفها في أغلب الأحيان عملية منفردة جداً، ولا يمكن التنبؤ بها إلى حد كبير، كما هو الشأن بالنسبة إلى عمليات الذئاب المنفردة التي ينكر فيها مرتكبو الجرائم والعمليات الإرهابية من متشددين من القومية البيضاء انتماءهم إلى أي جماعة إرهابية، وإنما يستوحون عنصريتهم المقيتة من أفكار متطرفة لعدد من زعماء الفكر الممجد لتفوق الجنس الأبيض على باقي الأجناس والديانة المسيحية على باقي الديانات‏[3].

تحاول هذه الورقة التطرق إلى كل من مراحل التطرف وكذا مخرجاته الرئيسية. بناءً على اليقين الراسخ أن التطرف تعرفه كل الديانات والمعتقدات والحضارات، وأن الإرهاب متعدد الألوان والأشكال والجذور ولا وطن ولا أرض له، تضع هذه الورقة موضع البحث القواسم المشتركة التي تجمع بين التطرف الإسلامي والتطرف اليميني، من خلال اعتمادهما العنف كخطاب رئيسي يستخدم أيديولوجيا متعصبة لزعزعة استقرار الدول والمجتمعات، عبر الفهم العميق للدوافع الرئيسية لتلك البنى الغارقة في التعصب والكراهية، التي تجد في البيئة الإقليمية والدولية كما في الصراعات الداخلية ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية، المناخ المناسب لدفع العديد من الفئات الاجتماعية للارتماء في أحضان الفكر المتطرف، والاحتماء به من النزعة العولمية والليبرالية المتوحشة التي قذفت بهذه المجموعات إلى الهامش. كما أن الاستيعاب العميق للظاهرة، يمهد الطريق لوضع استراتيجية شاملة تواجه جميع أنواع التهديدات المتطرفة المحتملة.

أولاً: أوجه التشابه والاختلاف بين الإرهاب الإسلامي وإرهاب اليمين المتطرف

بلا أدنى شك، إن من ساهم في ارتفاع التطرف اليميني الشعبوي الغربي، وجود مركزية خطاب أيديولوجي ممنهج وفائق الحساسية تدعمه وسائل الإعلام الغربية، يفترض أن الإسلام السياسي هو المحرك الرئيسي للتطرف في الغرب. ولكن في الواقع، الفرق بين التطرف اليميني والتطرف الإسلامي هو خط رفيع جداً غارق في العنف المحافظ‏[4]. كلاهما، على الرغم من العيش في ظل الحداثة، وازدهار الحركة النسائية، والتيارات العلمانية، والنخب الحضرية وتطور مهارات المعرفة والتعليم، يفضل لغة العنف والمدافع والعسكرة والثيوقراطية والتوسعية والحنين إلى الماضي المجيد. هما أساساً وجهان لعملة واحدة مفرطة وموغلة في المحافظة والتطرف.

خلال العقدين الأخيرين، ركزت الحكومات الغربية جهودها لمحاربة الجماعات الإسلامية المتطرفة بمختلف أصنافها، بما في ذلك تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية، ومع ذلك، فإن المتطرفين المحليين من أبناء الدول الغربية‏[5] الذين ألهمتهم فكرة التطرف، يمثلون مشكلة أكثر إثارة للقلق في الوقت الراهن. ورغم تنظيم العديد من المؤتمرات واللقاءات والندوات التوعوية، ظل التركيز منصباً على مواجهة الإرهاب «الجهادي» وليس الإرهاب الداخلي الذي يشتمل على تهديد الجماعات الإرهابية المتطرفة، وبخاصة تلك التي تؤمن بتفوق العنصر الأبيض، وتجعل من المهاجرين المسلمين أعداءها المفترضين، وتسعى للقضاء عليهم مستغلة ارتفاع العديد من الأصوات الشعبوية اليمينية المتطرفة التي تمكنت من الوصول إلى الحكم في العديد من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بعد وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الحكم سنة 2016، وما تلت هذه المرحلة من ظهور موجة جديدة من التطرف والعنصرية، وبخاصة ضد المسلمين بعد تحقيق اليمين المتطرف للعديد من المكتسبات الانتخابية في عدد كبير من الدول الأوروبية، حيث أسفرت انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة خلال عام 2019 عن تقدم وصعود اليمين الشعبوي ونهاية التكتلات التقليدية في كل من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا.

بعد أكثر من عقد من الزمن من الإهمال والتغاضي عن التيار المتصاعد للحركات المتعصبة البيض، المقترن باتساع الانقسام السياسي المبني على التناقضات العرقية والدينية والإثنية، تفجرت موجة جديدة من الإرهاب الداخلي أو الوطني لم يسبق لها مثيل في تاريخ العمليات الإرهابية. على سبيل المثال، كانت كنيسة أمريكية من أصل أفريقي مسرحاً لفظائع مروعة‏[6] في ساوث كارولينا. وتمت مهاجمة العديد من المساجد وتدنيسها في الولايات المتحدة‏[7]. وأصبحت المعابد الأمريكية في بيتسبورغ وسان دييغو مستهدفة منذ فترة طويلة، وتعرضت لإطلاق نار جماعي من جانب بعض المتطرفين القوميين البيض. وأصبحت هذه الحوادث الإرهابية المؤسفة في ارتفاع متصاعد داخل المجتمع الأمريكي والأوروبي.

لطالما كان التطرف الديني والأيديولوجي يهدد المصالح المشتركة لدول العالم الإسلامي والغرب على حد سواء، كما يعدّه البعض أيضاً تلك القشة التي قصمت ظهر البعير، أي ذلك البعبع المخيف الذي يشكل أداة الغرب النافذة لتحقيق مصالحه في المنطقة العربية والإسلامية. لكن غالباً ما يتم تجاهل وجوه التطرف الأخرى بوصفها سمة من سمات التعصب الموجودة في جميع المجتمعات. تتزايد الحركات اليمينية في مجتمعات أمريكا الشمالية وأوروبا. الغريب أن هذه الجماعات اليمينية المتطرفة قدمت الكثير من الأسس والادعاءات والخطابات المشابهة لتلك التي تظهرها الجماعات الإسلامية المتطرفة.

بناءً على تحليل الخطاب لمفهومين متصلين من الناحية المفاهيمية والغائية، نسعى في هذه الورقة لشرح طبيعة التشابهات والاختلافات بين جماعات الإسلام السياسي الراديكالي والحركات اليمينية الغربية المتطرفة. كما نحاول تفكيك هذا الخطاب ووجهات نظر كل منهما ودورهما في تأجيج النعرات العنصرية والأفكار الهامشية والانتصار للشوفينية الفكرية والراديكالية. لهذا يحتاج صنّاع القرار والباحثون والمهتمون إلى فهم التطرف اليميني والإسلامي على أنهما ظواهر لها قواسم مشتركة ونزوعات ذات قوى دافعة لها تأثير كبير، إن على الصعيد المحلي أو على الصعيد الدولي.

منذ نهاية الحرب الباردة، حوّلت السياسة العالمية الأنظار والاهتمام إلى العالم الإسلامي، كما يتم التفكير وعلى نحو متزايد في الأقليات المسلمة في المجتمعات الأوروبية الغربية كمجموعات دينية بدلاً من وصفها أقليات عرقية أو ثقافية. إن هذه الصورة النمطية تعطي انطباعاً سيئاً لدى المسلمين، وتفجر في داخلهم كل ما هو سلبي وعدائي وعنيف ضد الغرب وثقافته الاستئصالية.

ظاهرة اليمين المتطرف الغربي في مواجهة خطاب أسلمة التطرف: مساءلة الاستراتيجيات الأمنية الغربية(*) - CAUS - مركز دراسات الوحدة العربية

تستغل النخب السياسية في الغرب كل التوترات والصورة القدحية عن الإسلام والمسلمين لتحقيق مكاسب سياسية على الصعيدين الوطني والدولي. أصبحت السياسات الغربية تضع الأقليات المسلمة تحت الأضواء الكاشفة، وتمكنت من فرض بعض المفاهيم الجاهزة على المواطن العادي، كما جندت كل وسائل الإعلام لإقناع مواطنيها بالتعميمات البسيطة باتهام المسلمين والإسلام بأنهم مصدر للإرهاب والعنف، وإلصاق كل العمليات الإرهابية بهذه المجموعة، وجعل الرهاب ضد الإسلام أمراً مسلّماً به.

كما أن مستويات الإحباط لدى بعض الشباب المسلم تؤدي في كثير من الأحيان إلى اختيارهم التوجه إلى نقطة اللاعودة، والانتقال بهم من حالة فقدان الأمل إلى حالة الانتقام والتشظي والكراهية. ويتمثل رد الفعل المقاوم للعنصرية الغربية في انضمامهم أكثر فأكثر إلى الجماعات الإسلامية، واعتناقهم أفكارها المتطرفة، حيث إن كثيراً من المسلمين لا يقاتلون من أجل مجتمعاتهم المحلية، ولكن من أجل مشروع عالمي متخيَّل، يؤدي إلى مزيد من الفراغ على المستوى المحلي المليء بمكائد السياسات اليمينية التي يتم تحضيرها محلياً ولكن برعاية وتوجيه من سياسات وطنية ذات الأصول اليمينية المتعصبة.

وفي الوقت نفسه، تؤدي الهجمات اليمينية المتطرفة والخوف من الإسلام إلى ظاهرة الرهاب المزمن من الدين الإسلامي، ويرتبط ذلك بسياق ثقافي محلي. إنه يعكس تحولاً داخل التطرف اليميني بوجه عام، ومع إدانة العديد من الجماعات والأفراد – بما في ذلك بريفيك – للنازية والفاشية ومعاداة السامية، لكنهم لا يتورعون عن التعبير عن رغبتهم الدفينة في صيانة هويتهم الضيقة من الانهيار والتآكل نتيجة التهديد المتصور من خطر الإسلام على بنية المجتمعات الغربية الاجتماعية والديمغرافية‏[8].

في المقابل، فإن نسبة كبيرة من الإرهابيين «الذئاب المنفردة» انشغلوا فقط بالرمزية النازية الجديدة وأبطال ورموز التيارات اليمينية المتطرفة وأيديولوجياتها. ومع ذلك، هناك نقص نسبي في معالجة وتحليل التهديد الناجم عن التطرف اليميني في أمريكا الشمالية وأوروبا‏[9]. اعترف بافلو لابشين، وهو إرهابي يميني متطرف أدين بتهمة قتل محمد سليم، البالغ من العمر 82 عاماً من برمنغهام، بقتل هذا الأخير، لا لشيء إلا لأنه مسلم الديانة.

بالرغم من الاختلافات الكبيرة بين اليمين المتطرف والتطرف الإسلامي من حيث النشأة والجذور الفكرية والأهداف والمآلات والخطط التكتيكية والاستراتيجية، فهما يتقاسمان الكثير من القواسم المشتركة، أهمها: الميكانيزمات المستخدمة من جانبهما لجذب اهتمام الضحايا وتمجيد الجهاد والقتل من خلال استغلال شبكة الإنترنت أو غير ذلك – فهي متشابهة جداً. كما هي الطريقة التي يكون بها شكلان من أشكال النشاط العنيف على هامش حركة أوسع كثيراً‏[10]. لا توجد «ذئاب منفردة»، على الأقل ليس بمعنى قاتل منفرد، من دون صلة أو وشائج تجمعه مع جماعة متطرفة، سواء كانت افتراضية أو حقيقية. ففي «بيان» نشره موقع هجوم كرايست تشيرش على الإنترنت، على سبيل المثال، ذكر فيه أنه ليس «عضواً مباشراً» في أي مجموعة أو منظمة، لكنه تفاعل واستلهم من هذه التيارات الكثير من أفكاره المتطرفة والمتعصبة حيث وصل به المطاف إلى قتل أبرياء بدم بارد في دور العبادة.

يشترك التياران معاً أيضاً في عنصر مشترك آخر هو الاعتقاد بأن «مقاومة» الاستبداد واجب. يقول مفكرون إسلاميون متشددون إنه يجب إطاحة الحكام أو الأنظمة الحاكمة المستبدة إذا وقفوا في طريق الحكم المستنير والمخلص. ينظر المتطرفون اليمينيون أيضاً إلى الحكومة كمضطهِد لمجتمعهم المتخيل، المعرَّف بـ «العرق» وأحياناً بالعقيدة، ويعتقدون أن هذه السلطة السياسية يجب التخلص منها ما دامت تعارض وجودهم كمجموعة بشرية لها أفضلية العيش والاستمرار في بلدانها الأصلية من دون السماح للآخرين والمهاجرين بالتمتع بنفس الحقوق والحريات.

يعتقد كل من الإسلاميين والمتطرفين اليمينيين أن مجتمعاتهم تواجه تهديداً وجودياً، وهذا يفرض التزاماً على الفرد لمواجهة هذا الواقع ومحاولة تغييره. بالنسبة إلى الإسلاميين، ومن الناحية التاريخية، فإن الاعتقاد السائد هو أن الغرب عمل على استغلال العالم الإسلامي لأزيد من 1000 عام، كما كرّس واقع الفرقة والشتات من خلال دعم الأنظمة الفاسدة في العالم الإسلامي للاستمرار في استغلال خيراتها وارتهان مستقبل شعوبها. وهذا ما يفسر موقفهم من الغرب ليس كفاعل حضاري وإنما كمستعمر ساهم في تمزيق الوطن العربي والإسلامي، وهذا ما يستوجب في نظرهم الجهاد.

تعدّ ردود الفعل على هجوم كرايست تشيرش بأستراليا من أعراض التطرف التراكمي المشترك بين الإسلام المتطرف واليمين الغربي المتطرف. كلا الأيديولوجيتين تتغذى على مثل هذه التصورات الإرهابية، وتستخدم بعض العمليات الإرهابية لإضفاء الشرعية على بعضها بعضاً وتعزيزها، من خلال تمسكها المشترك برؤية عالمية تتعلق بصراع الحضارات بين الإسلام والغرب. فالهجوم الإرهابي من جانب إحدى المجموعات يدعو إلى انتقام واستعداد المجموعة الأخرى لتوجيه ضربات مماثلة للتيار الآخر المختلف.

قد نعتقد بأن هاتين الأيديولوجيتين البغيضتين – التفوق الأبيض والإسلام المتطرف – متناقضتان كلياً، لكن وجهات نظرهما حول العالم تتشابهان إلى حد التطابق؛ فكلاهما مصاب بجنون العظمة، ويظهران مزيجاً ساماً من التفوق والإحساس بالغطرسة تجاه الآخر، وهم يحتقرون أفراداً أقل تطرفاً في مجتمعاتهم، ويحنّون إلى الماضي المتخيَّل للهيمنة الثقافية. هذه المنطلقات الشمولية التي ينطلق منها كل تيار، تجد أساساً لها في الطوباوية المتخيلة الراسخة في متنهم ومرجعيتهم الفكرية. فالجماعات الإسلامية، أخذت بفكرة الخلافة الإسلامية ودافعت عنها بقوة. وتتشابه هذه الجماعات في هذا المعطى، وتتداخل بينها على غرار أيديولوجيا الإخوان المسلمين والقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية. في المقابل ينحو اليمين المتطرف الغربي المنحى نفسه، لكن من منطلق إثني وديني مركب يمعن في احتقار الشعوب والثقافات الأخرى ويعدّها غير صالحة للتنافس، بل للتواجد جنباً إلى جنب مع أيديولوجيته وفكره وتاريخه وتفوقه الحضاري.

إن ازدراء الحداثة «الغربية» سمة أخرى يتقاسمها الإسلام المتطرف ومعتنقو أقصى اليمين. وقد أشار حسن البنا، الأب المؤسس للإسلام السياسي، في كتاباته، حسب ما تحدث عنه تارانت، أن الغرب أغرق العالم في الحياة المادية والرأسمالية المتوحشة، مع بث سمومهم للسيطرة والهيمنة على الدول الإسلامية التي تقع تحت سيطرتهم، وهو مقتنع بأن الغرب أصبح «مجتمعاً من العدمية المتفشية والنزعة الاستهلاكية والفردية». هذا الازدراء للعديد من جوانب الحداثة يترجم الرغبة التواقة إلى ماضٍ مفترض أكثر نصاعة وبياضاً، وحنينٍ إلى العظمة الإمبراطورية القديمة حين كان العالم تحت قيادة الإمبراطورية الأوروبية أو الخلافة الإسلامية بالنسبة إلى حركات الإسلام السياسي.

تزداد الهوة حدة في طريقة التعامل مع التطرف الإسلامي واليمين المتطرف من الأغلبية البيضاء والقومية الضيقة، حيث يناشد التطرف على غرار داعش أقلية صغيرة داخل المجتمعات الغربية. وحتى عندما تكون جاذبية أيديولوجيتها أكثر تناسباً داخل مجتمعات الأغلبية المسلمة، فإن الجاذبية تكون ضئيلة جداً في الدول الغربية. علاوة على ذلك، لا يمكن تخيُّل استمرار هذه التنظيمات الإسلامية المتطرفة لفترات طويلة، بالنظر إلى الجهود الدولية التي تبذل على نطاق واسع لمحاربتها وسحقها نهائياً.

في المقابل عندما يتعلق الأمر بتطرف اليمين والانتصار للقومية البيضاء، فإن التعاطف يكون أكبر كثيراً في المجتمعات الغربية من أي نوع من الأيديولوجيا المتعاطفة مع داعش. في الواقع حتى عندما نقارن الجاذبية التي تتسم بها أيديولوجيا تنظيم الدولة الإسلامية في مجتمعات الأغلبية المسلمة، فقد نواجه مشكلة أكثر نسبياً مع تفوق التطرف الأبيض. ومع هذا لا يتم التعاطي مع التيارات القومية المتشددة بما يتناسب مع التهديدات التي تطرحها في المجتمعات الغربية‏[11].

يمكن أن نقارن هذا الأمر بكيفية مواجهة إشكالية الطائفية في العالم العربي والإسلامي، حيث إن الصراعات الطائفية في هذه المناطق الجغرافية، استهدفت من ضمن أهدافها المجتمعات الدينية غير المسلمة مثل المسيحيين أو الأيزيديين، وأودت بحياة الكثير من الأبرياء من هذه الأقليات، وتواجه حالياً بصرامة كبيرة من جانب الغرب. فحينما يتعلق الأمر بحقوق الأقليات غير المسلمة ينتفض الغرب ولا يهدأ له بال، في حين أن الخطاب الطائفي هدفه الرئيس هو التلاعب بجغرافية وديمغرافية أجزاء كبيرة في العالم الإسلامي، وتأثيره على المدى القريب والبعيد أمر لا يستهان به، بوصفه محركاً أساسياً لحالة الفوضى التي أصبحت ميزة أساسية لهذه الرقعة الجغرافية من العالم.

يكمن الفرق الأساسي في كيفية تعاطي الحكومات الغربية مع التطرف الإسلامي واليمين المتطرف. منذ عام 2001، تعاملت الحكومات في جميع أنحاء العالم مع التطرف الإسلامي بالكثير من الصرامة والجدية من خلال متابعة نشاطاته عبر الإنترنت، وقامت برصد ومتابعة مصادره التمويلية، وبحثت عن إرهابيين محتملين، وعملت عبر منصات التواصل على وقف انتشار الجماعات الإسلامية المتطرفة وتوقيف عملية التجنيد والاستقطاب غير المباشر التي تنهجها هذه الجماعات.

على النقيض من ذلك، لم تتعامل هذه الحكومات بنفس الجدية والصرامة مع الجماعات اليمينية المتطرفة، بل واصل العديد منها حملاته على الإنترنت مستعرضاً أفكار اليمين المتطرف المعادية للمهاجرين. على سبيل المثال لا الحصر، بعد عدة ساعات من العملية الإرهابية في نيوزيلندا، كان من السهل جداً العثور على الفيديو عبر الإنترنت ومنعه من التداول على نطاق واسع في مختلف تطبيقات التواصل الاجتماعي، لكن تم التعامل بقدر كبير من التجاهل ومنطق تحقيق المكاسب التجارية وبث الذعر وتخويف الناس. ولم يتخذ الرئيس الأمريكي أي موقف مندد من القاتل، كما عبر سياسي أسترالي، عقب الهجوم، عن تأييده الضمني للقاتل وللهجوم على المسجدين. من جهة أخرى، هناك عدد قليل من البرامج الحكومية الخاصة لمحاربة الأصناف الأكثر تطرفاً لهذه الأيديولوجيا العنيفة، ولم يخصص إلا القليل من الوقت للتفكير في السبل الكفيلة بمواجهتها.

ويلاحظ بوجه عام، أنه عندما يتعلق الأمر باليمين المتطرف الغربي وهيمنة القومية البيضاء، يصبح خطاب التقليل من خطورته وتبسيط منطلقاته هو الخطاب السائد لدى الساسة ووسائل الإعلام الغربي. على سبيل المثال، وصفت صحيفة الديلي ميرور في المملكة المتحدة المجرم في حادثة كرايست تشيرش بنيوزلندا بأنه «طفل ملائكي» نشأ في بيئة عادية ليصبح إرهابياً فيما بعد. ووصفته صحيفة ديلي ميل الأسترالية بأنه «يافع في مدرسة الرعب» تحول بعد ذلك إلى قاتل جماعي – مبررة أنه عانى طفولة صعبة نتيجة شكله البدين، ما ساهم في انحرافه وإقدامه على قتل مجموعة من المسلمين في مسجدَي نيوزلندا أثناء تأديتهم صلاة الجمعة.

ندرك في الوطن العربي حجم تهديد الجماعات الإسلامية المتطرفة، على غرار داعش والقاعدة، حيث كان المسلمون بوجه عام الضحايا الرئيسيين لهذا النوع من التطرف. لكن المتطرفين في هذه التنظيمات، لا يمكنهم تصور قلب موازين الغرب وتهديد بُناه وأنظمته الدستورية والسياسية والاجتماعية والثقافية، بغض النظر عن النيات والرغبات والمشاريع المرتبطة بتيارات فكرية متطرفة كهذه. يمكن وصف التهديد الوجودي‏[12] الذي يمثله اليمين المتطرف على أمن واستقرار الدول الغربية، بعد الحادثة الفظيعة التي تعرض لها مسلمون في مسجدَي نيوزيلندا، بأنه الأخطر في نوعه من الناحية العملية ويجب التعامل معه بالمزيد من الجدية والتبصر والمتابعة الأمنية والإعلامية، ومحاولة تفكيك هذا الخطاب العنصري الذي يبني أسس وجوده على النعرات الضيقة وعلى بناءات عنصرية تضرب التعايش والتسامح في الصميم.