الجوع إلى الحميمية: عندما نتفاعل مع هواتفنا أكثر من أحبائنا - جريدة الغد
A Decrease font size.A Reset font size.A Increase font size.
ميشيل دروين – (الغارديان) 31/1/2022
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
إنه أكبر مصدر إلهاء لي عن عملي وعائلتي وأصدقائي -ومع ذلك لا يمكنني أن أنسحب، حتى عندما تقول أبحاثي الخاصة إنني يجب أن أفعل.
* *مثل معظم البشر، أريد الحميمية في حياتي.
لكنني، كطبيبة متخصصة في التنمية النفسية، أعتبر الحميمية في الحياة حاجة إنسانية أساسية.المشاعر، والعناق، والمحادثات الفكرية والجنس -غالبًا ما تكون هذه اللحظات الحميمية هي المحك لتجربة إنسانية غنية.
ومع ذلك، يعاني ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم العزلة والوحدة، ويفتقرون بشكل مؤسف إلى التجارب الاجتماعية الهادفة والمتنوعة التي تساعد على دعم صحتهم العاطفية والجسدية.
يقضي المراهقون معظم ساعات استيقاظهم على الإنترنت، ويتجنبون التجمعات الشخصية لصالح الدردشة عبر الإنترنت، والألعاب، ومشاعدة “نيتفليكس”.
وحتى أولئك منا الذين لديهم شبكات غنية اجتماعيًا يتوقون أحيانًا إلى ومضات من الحميمية، مثل العناق من الأصدقاء واللقاء مع الأحباء، وسط حالة من الركود الذي يلف حياتنا اليومية.
بينما أصبحت الحياة الحديثة أكثر تباعداً بسبب الابتكار التكنولوجي، تضاءلت فرصنا في معايشة اللحظات العميقة والحميمية.
وأدى الوباء إلى تفاقم هذا الاتجاه فحسب، فأفضى إلى حظر أو إعاقة العديد من أنواع اللمسة الودية والمهنية، وأرسل العديد منا إلى أعماق عوالمنا الافتراضية.
وترك هذا الكثيرين منا يتضورون جوعا. لقد دخلنا في حقبة مجاعة إلى الحميمية.
أما مدى تأثرك فيعتمد جزئيًا على تجربتك الموضوعية، ويعتمد في أغلبه على منظورك.
أي مجموعة من الكلمات الآتية تصفك في عامَيك الأخيرين:
- قريب، متصل، محبوب، محتضَن وممتلئ، أم؛
- متباعد، منفصل، وحيد، منهك وفارغ؟إذا اخترت المجموعة الثانية، فأنت لست وحدك. وعلى الرغم من أن الوباء قد يكثف شعورنا بالحرمان الاجتماعي إلا أننا كنا داخلين مُسبقاً في هذه الدورة، نحدِّق في هواتفنا كما لو أنها الإجابة عن مشاكلنا. ومن المفارقات أنها ربما تكون كذلك.
* *بينما كنت أكتبُ الكلمات التي قرأتَها للتو، تحققت من حساباتي على “فيسبوك”، و”إنستغرام”، و”تويتر” و”لينكد-إن” مرات عدة. لماذا؟
بتعبير بسيط، لا بد أنني أؤمن، أنا و53 في المائة من البالغين في جميع أنحاء العالم ممن يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، بأن استخدام هذه المنصات يستحق التكلفة.أما إذا عبَّرتُ عن ذلك بطريقة غير بسيطة إلى هذا الحد، فإن علاقتي بوسائل التواصل الاجتماعي… معقدة.
إن إعلاني عن حالة علاقتي بوسائل التواصل الاجتماعي جريء: أنا في الواقع في علاقة مع هاتفي.
من خلال أضوائه، وأصواته، واهتزازاته، يقدم لي هاتفي عروضاً لجذب الانتباه، وأنا أستجيب. ويشبه هذا إلى حد كبير الطريقة التي أستجيب بها للآخرين في حياتي الذين يقدمون هذه العروض (على سبيل المثال، زوجي وأولادي)، إنني ألتفت إلى هاتفي، وأهتم به وأسعى إلى حل المسألة التي استدعت إصداره التنبه.
وربما يكون هاتفي هو الكيان الأكثر تطلُّبًا في عالمي.
لقد علمت طلابي أن الاستجابة هي أحد العناصر الحاسمة في خبرة الأبوة والأمومة، وأحد أهم الأشياء التي يمكنك القيام بها بصفتك أحد الوالدين هو رعاية طفل والحدب عليه.
وهكذا، من خلال استجابتي لمطالب هاتفي، فإنني أقوم برعايته أيضًا. ولكن، لم تكن الاستجابة فقط هي التي عززت علاقتنا.
إنني أمسح شاشته بعناية لإزالة اللطخات (الاستمالة الاجتماعية)؛ وأحمله معي في كل مكان أذهب إليه، إما في حقيبتي أو في يدي أو جيبي (رابطة الجلد-الشاشة). وأشعر بالتوتر إذا لم أستطع العثور عليه (قلق الانفصال). إننا في الحقيقة مرتبطان، وأنا مغرمة به.
ولم تمر هذه العلاقة من دون أن يلاحظها آخرون في فلكي. إلى جانب عالم الأسرة، براندون مكدانيل Brandon McDaniel، كنت أستكشف الطرق التي تتدخل بها التكنولوجيا في العلاقات الثنائية من خلال الانقطاعات اليومية الصغيرة في تفاعلاتنا، والتي يطلق عليها اسم “التكنوفيرنس”، أو “التدخل التقني”(1).
منذ العام 2016، وجدنا أنا وماكدانييل، إلى جانب باحثين آخرين حول العالم، بعض الاتجاهات المتسقة.
على وجه التحديد، يختار الأشخاص أحيانًا التفاعل مع هواتفهم مفضلين ذلك على البشر الآخرين في حياتهم، وهذا يمكن أن يسبب الصراع، والغيرة في العلاقات الزوجية وعلاقات العائلة والأصدقاء.
وفي المقابل، يرتبط هذا الصراع والغيرة بمستويات أقل من الرضا عن العلاقة، كما أنه يضر بالحميمية.
لسوء الحظ، يؤثر هذا “التدخل التقني” على البعض منا كل يوم تقريبًا.
وفي دراستنا التي أجريناها في العام 2019 حول هذا الموضوع، قمت أنا وماكدانيال بتوظيف دراسة لليوميات، حيث طلبنا من أزواج يعيشون علاقة رومانسية رسم خريطة لـ”التدخل التقني” الذي عاشوه واستجاباتهم الشعورية كل يوم على مدار 14 يومًا.
وكانت النتائج مذهلة: أبلغ معظم الأزواج (72 في المائة منهم) عن وجود “التدخل التقني” في تفاعلاهم مع الشريك على مدار الأسبوعين كاملين.
والأهم من ذلك، في الأيام التي أبلغ فيها المشاركون عن مزيد من “التدخل التقني”، أبلغوا أيضًا عن مزيد من الصراع حول التكنولوجيا، وتفاعلات أقل إيجابية وجهاً لوجه مع شركائهم، والمزيد من السلبية فيما يتعلق بمزاجهم ومشاعرهم تجاه علاقاتهم.
لماذا قد نشعر بأننا مرفوضون بشدة عندما يختار شريك أو صديق التفاعل مع الهاتف بدلاً من التعامل معنا؟ وفقًا لنظرية التفاعلية الرمزية symbolic interactionism، فإن تفاعلاتنا مع الآخرين مرتبطة برسائل.
وتساعدنا هذه الرسائل على تحديد دورنا في حياة ذلك الشخص.
وعندما يختار شخص ما الانتباه إلى هاتفه بدلاً من الانتباه إلينا، خاصة عندما نبذل جهودًا لإشراكه، فإنه يرسل رمزًا يشير إلى أن الهاتف أهم منا.
وحتى لو كانت هذه مجرد تجربة مؤقتة، فإنها يمكن أن تبدو مثل الرفض، وتسجل نفسها كتكلفة على العلاقة.
* *يتضمن قرارنا البقاء في علاقة تقييمًا مستمرًا لتكاليف وفوائد تلك العلاقة.
وبشكل أساسي، نحتفظ بحصيلة للإيجابيات والسلبيات في شركائنا -وللحفاظ على الاستثمار والالتزام، يجب تحقيق التوازن.
في علاقتي بهاتفي، دائمًا ما يميل الميزان لصالحه. وبالتأكيد، هناك تكاليف: إنه أكبر مصدر إلهاء لي عن عملي، وعائلتي وأصدقائي.
بغض النظر عن المكان الذي أكون فيه، عندما تظهر إشارة عن ورود رسالة بريد إلكتروني أو رسالة نصية، أشعر بأنني مضطرة إلى التحقق منها.
كما أنني أقع في فخ “حفرة الأرنب” أو الاستقصاء الاستطرادي الذي يبدأ بقراءة مقال بسيط عن تصور فيودور دوستويفسكي للحب، وينتهي بعد ساعتين لاحقاً، بعد أن أكون قد قرأت عن تعريف الحب عند عشرين فيلسوفاً مختلفين.
بفضل الفيلم الوثائقي “المعضلة الاجتماعية” The Social Dilemma والتعليقات الحديثة الأخرى على صناعة التكنولوجيا، أصبحت أفهم الآن أن هذه الدوافع متجذرة في التصميم الهادف.
فعلى الرغم من أنني أفهم لماذا أقع فريسة، فإنني أظل أعرِّف نفسي على أنني فريسة، وهذا يجلعني غير راضية.
من منظور مجتمعي أكبر، قد يتسبب استخدام الهواتف والتكنولوجيا أيضًا في عدم الرضا. في أوائل القرن الحادي والعشرين، كان هناك الكثير من اهتمام وسائل الإعلام بأبحاث عالمة النفس الأميركية جين توينج Jean Twenge وزملائها.
وقد أظهرت دراساتهم ارتفاعًا في معدلات الاكتئاب والقلق، والذي يستجيب لزيادة معدلات استخدام التكنولوجيا بين المراهقين والشباب في الولايات المتحدة خلال العقد الماضي.
وتذهب الأطروحة إلى شيء من قبيل: إن التكنولوجيا تساعدنا على تكوين العلاقات، بالتأكيد. ومع ذلك، فإن الجميع الآن يجلسون في غرف نومهم، منكبّين على هواتفهم وحواسيبهم، ومن خلال التواصل مع الآخرين عبر الإنترنت، يفقدون التفاعلات وجهاً لوجه التي تساعد على إبقائنا سعداء وشاعرين بالتواصل الاجتماعي.
بل إن الأسوأ من ذلك هو أن انهماكنا بالإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي يجعلنا نشعر بالتوتر والوحدة والاكتئاب.
يساعدنا اكتساب رأس المال الاجتماعي على الشعور بالرضا عن أنفسنا على طريقة: “لقد كنت قادرًا على كسب هذا الصديق/ هذه الصلة، وبالتالي يجب أن أكون جيدًا”.
إقرأ المزيد في ترجمات:
وأظهرت الدراسات الحديثة التي أجريت على مراهقين أميركيين أنه كلما زاد رأسمالك الاجتماعي على الإنترنت، زادت احتمالية توترك عند تعرضك لخطر عبر الإنترنت (على سبيل المثال، انتهاكات المعلومات والتعرض لمحتوى صريح). ولكن، قد تكون هذه ظاهرة “وضع كل البيض في سلة واحدة”؛ حيث يمكن أن يوفر رأس المال الاجتماعي الموزع عبر سياقات الإنترنت وخارجه تأثيرًا أكثر حماية.
* *
من خلال شبكاتنا الاجتماعية، نقوم بجمع المعلومات عن أنفسنا. كم يحبنا الآخرون؟ هل يهتم الآخرون بما نقوله؟ كيف تقارن حياتنا بحياة الآخرين؟ فجأة أصبحنا مثل الحراس في مركز الـ”بانوبتيكون”.(2)
إننا، كبشر، نقضي وقتًا طويلاً في التفكير فيما يعتقده الآخرون.
وعلى الرغم من أن هذا لا ينبغي أن يكون اقتراحًا مثيرًا للجدل، إلا أنني متأكدة من أن بعضكم يقولون لأنفسهم: “لا، أنا لا أفعل ذلك”، أو “أنا لا يهمني ما يعتقده الآخرون”.
وهذا أمر مفهوم. وقد تأتي أي معارضة تشعر بها تجاه هذا البيان من مقدمي النصائح ذوي النوايا الحسنة، الذين أكدوا لك، في محاولة لإبعادك عن النقد الذاتي والقلق الناشئ عن تقييمات الآخرين، أن ما يعتقده الآخرون بشأنك لا يهم.
من الطبيعي تمامًا التفكير (والاهتمام) بما يعتقده الآخرون.
إنه علامة على أنك منسجم مع محيطك الاجتماعي.
ووفقًا لـ”فرضية الدماغ الاجتماعي”(3)، فإن هذه الأنواع من التفاعلات الاجتماعية المعقدة هي سبب امتلاكنا أدمغة أكبر من الفقاريات الأخرى. وأكثر من ذلك، أنه علامة على أنك تحتاج إلى (وتهتم) بالناس ومشاعرهم.
إنك مرتبط، والارتباط بالآخرين يمكن أن يساعدنا على التغلب على جميع أنواع العواصف.
لهذا السبب لن أقترح أبدًا تخليك عن هاتفك الذكي أو القيام بإزالة السموم من الهاتف. بدلاً من ذلك، أنا أقبل ارتباطك بهاتفك كما هو: إنك تتشبث بشريان حياة يصلك بأشخاص مهمين في عالمك.
بالنسبة للبعض، مثل العديد من الشباب الذين أقوم بتدريسهم وأجري الأبحاث عنهم، فإن شكل الحميمية يتحول الآن بشكل كبير، لدرجة أن القطرات التي يحصلون عليها من خلال الرسائل النصية ووسائل التواصل الاجتماعي تكفي للحفاظ على الصلة.
وبالنسبة لآخرين، مثلي، قد تكون التفاعلات الشخصية، حيث نكون غارقين في اللمس، والضحك، والإشارات غير اللفظية، هي ما نحتاجه بشدة.
ولكن، بالنسبة لنا جميعًا، فإننا نحتاج إلى تحقيق توازن، بحيث نسمح لتقنيتنا اليومية بالتنقيط وتسهيل لحظات التواصل الشخصي الأكثر عمقاً.
وسواء كنا نرسل رسائل نصية إلى أصدقائنا أو نلتقي بأحبائنا على وجبة عشاء، فإنها رغبتنا في التواصل ونقاط ضعفنا بمجرد أن نصل إلى هناك هي مقومات عيش حياة حميمية.
*هذا المقال مقتطف محرّر من كتاب ميشيل دروين، “فقدان اللمسة: كيف تنجو من مجاعة الحميمية”، من منشورات “إم. آي. تي”. ونشر بعنوان: The age of intimacy famine: when we interact with our phones rather than our loved onesهوامش المترجم:
(1) يشير مصطلح “التدخل التقني” Technoference إلى الانقطاعات في التواصل بين الأشخاص بسبب الاهتمام بالأجهزة التكنولوجية الشخصية. بمعنى آخر، إنه الشيء الذي يحدث عندما تنظر في هاتفك أو جهازك اللوحي ولا تسمع السؤال الذي طرحه عليك طفلك، أو صديقك، أو والدتك أو شريكك.
صاغ ماكدانيال المصطلح من “techon” من “technology” و”ference” من “interference”، أي “التدخل”، وهو يجمع أشياء مثل تفقد الهواتف بحثًا عن رسائل نصية وإشعارات أثناء وجبات الطعام أو وقت اللعب أو الأنشطة الروتينية الأخرى -ووجد أنه حتى الكميات المنخفضة منه ترتبط بمستويات أعلى من المشكلات السلوكية لدى الأطفال الذين يمارسونه.
(2) بانوبتيكون panopticon، وتعني “مراقبة الكل” هو نوع من السجون قام بتصميمه الفيلسوف الإنجليزي والمنظر الاجتماعي جيريمي بنثام في العام 1785.
مفهوم التصميم هو السماح بمراقب واحد مراقبة جميع السجناء دون أن يكون المسجونون قادرين على معرفة ما إذا كانوا مراقبين أم لا.
(3) نظرية الدماغ الاجتماعي social brain hypotesis: هي نظرية اقترحها البروفيسور روبن دونبار، والتي تقول إن الحجم الكبير نسبيًا للدماغ في البشر سببه تطورهم في مجموعات اجتماعية كبيرة ومعقدة.
الوسومالعلاقات علاء الدين ابو زينة