الاستخبارات مفتوحة المصدر: حقبة جديدة من الحرب الشفافة في الأفق
A Decrease font size.A Reset font size.A Increase font size.
تقرير خاص – (الإيكونوميست) 19/2/2022
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
مدار أرضي منخفضفي اليوم الرابع من شباط (فبراير)، التقط أحد الأقمار الصناعية الأربعة التي تديرها شركة “ماكسار” Maxar، وهي شركة مقرها كولورادو تصور أكثر من 3 ملايين كيلومتر مربع من الكرة الأرضية كل يوم، صوراً لمعسكر روسي في ريشيتسا، بيلاروسيا. وفيه اصطفت صفوف من المركبات العسكرية المرتبة بدقة فوق سجادة كثيفة من الجليد على بعد أقل من 50 كيلومترا من الحدود مع أوكرانيا. وفي 14 شباط (فبراير)، التقط قمر صناعي شقيق صورة أخرى لريشيتسا. كان الثلج قد ذهب؛ وكذلك، أيضا، فعلت معظم المركبات (انظر الصور المرفقة).منذ بداية الحرب الباردة، قامت أميركا وحلفاؤها في حلف الناتو بفحص عمليات الانتشار والتحركات العسكرية الروسية باستخدام وسائل باهظة الثمن وغريبة في كثير من الأحيان لمراقبة أراضي الآخرين، مثل أقمار التجسس الصناعية ورحلات الطيران الاستطلاعية، إضافة إلى العملاء البشريين -وسائل لا يمكن أن يحشدها أي أحد آخر.لكن المراقبين المدنيين يمتلكون بشكل متزايد أدواتهم الخاصة. يتمتع الصحفيون، والأكاديميون، والمفكرون، والناشطون والمتحمسون الهواة بإمكانية الوصول إلى مجموعة من المعلومات الاستخباراتية مفتوحة المصدر، وهي قدرات توسعت بشكل كبير على مدار العقد الماضي، وسمحت لهم بالتوصل إلى استنتاجاتهم الخاصة حول ما الذي تفعله القوات المسلحة في العالم. وتستطيع الصور والبيانات الأخرى من الأقمار الصناعية التجارية ومقاطع الفيديو المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع تتبع السفن والطائرات وغيرها من المصادر المتاحة للجمهور، وإن كانت غامضة في بعض الأحيان، أن تكشف عن أحداث تجري في أماكن يتعذر الوصول إليها مثل ريشيستا بتفصيل غير مسبوق، وأحيانًا في الوقت الفعلي تقريبًا. ويقدم التحشيد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا عرضاً بارزًا للإمكانيات التي توفرها استخبارات المصادر المفتوحة الآن.يعود ذلك جزئياً، كما يلاحظ ستيفن وود، من شركة “ماكسار”، إلى أن الأقمار الصناعية في القطاع الخاص قد تحسنت “بشكل دراماتيكي”. ويمكن للأقمار الصناعية التي تمتلكها شركته أن تلتقط صوراً دقيقة بما يكفي لتصوير أشياء صغيرة يصل حجمها إلى 30 سنتمتراً. كما قفز عدد مقدمي هذه الخدمة بحدة أيضاً. (اعتمدت “الإيكونوميست” على بيانات كل من “ماكسار” و”بلانيت” Planet، وهي شركة في كاليفورنيا، لرصد عملية الحشد الروسية خلال الأسابيع الأخيرة). لكنَّ ما كان قوياً بشكل خاص في هذه الأزمة هو الجمع بين صور الأقمار الصناعية الدقيقة في الوقت المناسب ومشاركات وسائل التواصل الاجتماعي التي تتدفق من روسيا.خذ، على سبيل المثال، حالة المعدات والآليات المفقودة في ريشتسا. لا تُظهر صور القمر الصناعي أين ذهبت الأسلحة والمركبات، لكنها تُظهر أنها ذهبت فحسب. لكن هناك أدلة أخرى. يتميز السائقون الروس بأنهم مستخدمون متعطشون للكاميرات المثبتة على لوحة القيادة في مركباتهم. وفي الأسابيع الأخيرة، التقط هؤلاء رزمًا من لقطات الدبابات وغيرها من المعدات أثناء تنقلها على الطرق والسكك الحديدية. ويتم تحميل الكثير من هذه اللقطات على “تيك-توك”، وهو تطبيق صيني يمكن للمستخدمين من خلاله نشر مقاطع فيديو قصيرة (غالبًا ما تأتي صور الدبابات التي تتحرك عبر الأراضي الحدودية الروسية مصحوبة بموسيقى صاخبة).يظهر أحد هذه الفيديوهات، الذي تم تحميله في 13 شباط (فبراير)، قافلة من العربات المدرعة، بما في ذلك نظام عربات “شيلكا” المضاد للطائرات، على طريق يمتد على جنوب شرق بلدة مازير إلى ناروليا. وبعد يومين، لاحظ محلل للمعلومات مفتوحة المصدر، والذي يغرد تحت اسم “دانسبيون”، أن شعارًا على عربات “شيلكا”، على الرغم من عدم وضوحه، يشير إلى أن المركبات تنتمي إلى لواء الدبابات الخامس الروسي -إحدى الوحدات التي شوهدت سابقًا وهي تصل إلى ريشيتسا. وتظهر نظرة سريعة إلى الخريطة أن مازير وناروليا تقعان في أقصى الجنوب، أقرب إلى الحدود الأوكرانية. وبعبارات أخرى، يبدو أن بعض الوحدات التي غادرت ريشيتسا على الأقل لم تُنقل إلى قواعدها الأصلية، وإنما إلى مواقع أكثر تهديدًا. ويتناسب هذا مع تصريح بن والاس، وزير الدفاع البريطاني، الذي قال إن القوات الروسية تتحرك من “مناطق السيطرة” إلى “مناطق الانتشار الأمامية”.عادة ما تشكل يلنيا، وهي قاعدة تبعد 125 كيلومترًا عن حدود روسيا مع بيلاروسيا، موطن فرقة الحرس الرابع الآلية. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي، بدأت تمتلئ بالمعدات من “جيش الأسلحة المشتركة 41″، وهو مجموعة تضم عادةً فرقا عدة وتتمركز على بعد أكثر من 3.000 كيلومتر في سيبيريا. وبحلول أواخر كانون الثاني (يناير)، لم تكن يلنيا مكتظة بالدروع فحسب، وإنما بالجنود أيضاً: أظهرت صور الأقمار الصناعية أن التدفئة أدت إلى إذابة الثلج على الأسطح، وأن الأقدام في الأحذية العسكرية حولت الأرض المحيطة إلى طين موحل.ثم انتقل البعض من هؤلاء. في البداية، كان من الصعب رؤية هذا لأن يلنيا، مثل معظم أنحاء أوروبا في هذا الوقت من العام، غالبًا ما تكون مغطاة بالغيوم. ولكن لا الغيوم ولا الظلام يشكلان مشكلة بالنسبة لأقمار الرادار ذات الفتحة التركيبية (SAR) التي تضيء ما تنظر إليه بموجات الراديو.تلتقط الأقمار الصناعية “سنتينيل -1 سار” (Sentinel-1 SAR) التي تديرها “وكالة الفضاء الأوروبية” صورًا لكل بقعة في القارة كل ستة أيام. وعادة ما تكون الصور التي تنتجها محبَّبة وأقل دقة من تلك التي يتم التقاطها باستخدام أطوال موجية مرئية من أمثال “ماكسار” و”بلانيت”. لكن بعض الهياكل من صنع الإنسان تعكس موجات الرادار بشكل جيد. وقد أظهرت الصور التي التقطتها أقمار “سنتينيل -1” في الفترة من 23 كانون الثاني (يناير) إلى 11 شباط (فبراير) بحراً صاخباً من النقط الأرجوانية -تعود صور الرادار الملونة منعكسة عن المعدات- والتي كانت تتلاشى مع إفراغ يلنيا من القوات.أين ذهبت معدات وكوادر “جيش السلاح المشترك 41″؟ مرة أخرى، ربما بفي اتجاه الحدود الأوكرانية. وقد أظهر أحد المقاطع المنشورة على “تيك-توك” مركبات مدرعة في محطة سكك حديدية في بريانسك، على بعد حوالي 35 كيلومترًا من أوكرانيا. وأظهرت الإحالة المرجعية لرقم مكون من ثمانية أرقام مكتوب على القطار إلى موقع إلكتروني يتعقب تحركات السكك الحديدية أن القطار يأتي أصلاً -كما لا بد أنك قد خمنت- من يلنيا.في الأيام الأخيرة، قام الجيش الروسي بتحريك المعدات بوتيرة مسعورة، ربما لإعطاء مظهر الانسحاب -وهو أمر قالت وزارة الدفاع الروسية إنه جار في 14 شباط (فبراير). ويطلق مايكل كوفمان من CNA، وهي مؤسسة فكرية أميركية، على هذه المناورة اسم “لعبة نشر القذائف” التي تتم وفقها مناقلة الوحدات في المنطقة بطريقة مربكة “من دون تغيير الصورة العامة”. ويقول كوفمان إن بعض القوات تغادر شبه جزيرة القرم، لكن المزيد منها تصل إلى أماكن أخرى على طول الحدود.يفعل الروس الآن الشيء نفسه الذي عادة ما تفعله الجيوش قبل الحروب. في الرابع عشر من شباط (فبراير)، لاحظ محلل آخر قام بمسح بيانات الأقمار الصناعية منخفضة الدقة حدوث تغيير على ضفاف نهر بريبيات في بيلاروسيا، على بعد أقل من 6 كيلومترات من الحدود الأوكرانية. وكان ذلك، كما ظن، عملاً تمهيديًا لبناء جسر. وأظهرت صور نُشرت في 15 شباط (فبراير) أن هناك معبراً ظهر في المنطقة. (لم تكن هذه صدمة كاملة -فقد أعلن بيان صحفي غامض في 11 شباط (فبراير) أن هناك جسرًا يعبر فوق نهر بريبيات، على الرغم من أنه لم يذكر متى أو أين). ثم في 16 شباط (فبراير)، أشارت صور أقمار (سار) إلى أن الجسر قد أزيل. ربما كان ذلك تمريناً عسكرياً فقط.تتطلب استخبارات المصادر المفتوحة الجيدة البحث المستمر عن هذه الأنواع من التلميحات -ومعرفة الأماكن التي ينبغي البحث فيها. وإحدى الإجابات هي استخدام ممارسة تُعرف باسم “التكهن والتأكيد”: حيث يتم استخدام القرائن المأخوذة من أحد أجهزة الاستشعار، والتي عادة ما تكون غير واضحة وأقل دقة، لتوجيه جهاز أكثر وضوحًا يمكنه رؤية ماذا كان الشيء المقصود. وغالبًا ما يتم التكهن باستخدام صور أقمار صناعية منخفضة الدقة -وهي أرخص وأكثر وفرة من الأقمار ذات الصور عالية الدقة- لكن هناك طرقاً أكثر إبداعًا للقيام بذلك أيضًا.في السنوات الأخيرة، لاحظ المحللون أن بعض أنواع الرادارات العسكرية القوية يمكن أن تُربك رادارات الأقمار الصناعية “سنتينل-1″، ما ينتج عنه رصد نمط تداخل مميز في عوائدها. وقام أولي بالينغر، وهو محاضر في جامعة كوليدج لندن، ببناء أداة تسمى “متعقب تدخل الرادار” Radar Interference Tracker والتي تسمح لأي جهة بالبحث عن مثل هذا التداخل. وفي أيلول (سبتمبر)، اكتشفت الأداة تداخلًا من المحتمل أنه يأتي من بوجونوفو، وهي قاعدة روسية رئيسية قريبة من الحدود الأوكرانية، وقد اقترح هذا الاكتشاف إمكانية وجود أنظمة دفاع جوي هناك.على الرغم من كل البصيرة التي توفرها استخبارات المصادر المفتوحة، فإنها ليست بأي حال من الأحوال حلاً سحريًا. قد توفر الأقمار الصناعية أحجامًا غير مسبوقة من البيانات، لكنها تستطيع تصوير الكثير من الأشياء في يوم واحد فقط -وما تزال البيانات عالية الدقة نادرة. ولطالما عرف محللو الاستخبارات أن الصور العلوية، على الرغم من كونها مفيدة للغاية، لا يمكنها أبداً أن تظهر كل شيء. وهم يعرفون أيضًا أن المقدار الذي تعرضه فعلاً يمكن أن ساحراً -يبدو مادياً وملموساً بطريقة خادعة يمكن أن تضلل عديمي الخبرة.تقدر القوات المسلحة الحديثة الدور الذي بدأت مصادر الاستخبارات المفتوحة تلعبه في الأزمات، ويمكنها استغلال ذلك لصالحها. وعلى سبيل المثال، قد يُظهر الجيش عمدًا قافلة من الدبابات تذهب في الاتجاه المعاكس لوجهتها المقصودة، مع العلم أن لقطات “تيك-توك” الناجمة شتخضع للتشريح والتفكيك من قبل الباحثين. ويمكن تقليد إشارات الموقع التي تبثها السفن ووضعها على بعد أميال من مواقعها الحقيقية.كتب كونراد موزيكا، من مؤسسة “روشان الاستشارية”، الذي شكل بحثه الأساس لخرائط مجلة “الإيكونوميست” للانتشار الروسي: “يبدو أن الناس يعتقدون أن الاستخبارات مفتوحة المصدر ستقدم لهم النطاق الكامل للتطور. لكنني لا تخالطني أي أوهام. إننا نشاهد مجرد جزء بسيط فقط مما يحدث حقاً”. ومع ذلك، فإن رؤية هذا الجزء، ورؤيته بوسائل لا تعتمد على كلام ونزوات الحكومات، هو خروج جذري على أزمات الماضي. وإذا وصلت الحرب إلى أوروبا، فإنها ستكون هذه المرة شفافة كما لم تكن في أي وقت مضى.
*نشر هذا التقرير تحت عنوان: OSINT: A new era of transparent warfare beckons