فورين بوليسي: هل أحدثت هجمات 11 سبتمبر تغييرا في أميركا؟

استيقظ الأميركيون يوم 12 سبتمبر/أيلول 2001 ليجدوا العالم قد تغير إلى الأبد، أو هكذا بدا الأمر لهم؛ ففي صبيحة اليوم السابق تعرضت الولايات المتحدة لهجمات هي الأولى من نوعها على ترابها منذ الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر في جزيرة هاواي عام 1941 إبان الحرب العالمية الثانية.

وبعد أيام قلائل من تلك الهجمات على مدينتي نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر/أيلول 2001، أعلن الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الابن "حربا على الإرهاب".

وسرعان ما أطلق المحللون العنان لتوقعاتهم الدراماتيكية بشأن ما قد يطرأ على الولايات المتحدة من تغيير نتيجة تلك الهجمات، وتبين صحة توقعات بعضهم، وجانب آخرين الصواب.

وفي عددها الأخير، طلبت مجلة فورين بوليسي (Foreign Policy) من 7 من صحفييها والمتعاونين معها من الكُتّاب الإدلاء بآرائهم حول الكيفية التي أعادت بها هجمات "11 سبتمبر" صياغة السياسة الأميركية، وما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للمستقبل.

علاقة أميركا بالعالم العربي والإسلامي لن تعود كما كانت

تحت هذا العنوان ذكرت الصحفية مينا العريبي -كاتبة عمود بفورين بوليسي، ورئيسة تحرير صحيفة "ذا ناشونال" (The National)- أن هجمات 11 سبتمبر غيّرت إلى الأبد علاقة الولايات المتحدة مع العالم العربي والإسلامي، ووضعت حدودا لها طيلة العقدين الماضيين.

وكان ذلك التغير في العلاقات قائما على أمن الطاقة، والمصالح المشتركة، والحفاظ على التفوق العسكري لإسرائيل، وجعلها معنية إلى حد كبير بمكافحة "الإرهاب الإسلامي".

وفي النصف الثاني من القرن العشرين، كان التحالف الذي أقامته الولايات المتحدة مع أغلب الدول العربية والإسلامية مبنيا على ما إذا كانت تلك البلدان واقعة تحت النفوذ الأميركي أو السوفياتي، لكن بعد 11 سبتمبر أصبحت السياسة الأميركية تجاه العالم العربي والإسلامي قائمة على مبدأ "الإدانة حتى تثبت البراءة"، رغم أن معظم تلك الدول عانت من وطأة الإرهاب أكثر من الولايات المتحدة.

وأشارت الكاتبة إلى أن شكوك أميركا "الظالمة في كثير من الأحيان" إزاء العرب والمسلمين فاقمت التوترات مع الشعوب في أرجاء المعمورة، وأضافت أن غزوها أفغانستان والعراق لم يحقق النتائج المرجوة.

أما إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما فقد ركزت على الانسحاب من العراق، وسرعان ما عادت لتولي اهتمامها من جديد بأفغانستان إثر ظهور تنظيم الدولة الإسلامية على الساحة.

وفي حين نحى الرئيس السابق دونالد ترامب عبارة "الحرب على الإرهاب" جانبا، فإنه والرئيس الحالي جو بايدن لم يطرحا بديلا للتصدي للإرهاب سوى توجيه ضربات بطائرات مسيرة ضد أهداف محددة.

ولا يبدو أن واشنطن تعلمت من أخطاء العقدين الماضيين -حسب مينا العريبي- التي ترى أن خطر الجماعات "المتطرفة" ما يزال قائما، زاعمة أنه رغم تغير قيادة تلك الجماعات فإن مبادئها لم تتغير.

التضليل يعيد تجديد الخطاب السياسي

لعل الواضح بداهة على ما يبدو في نظر الكاتب ستيفن كوك بمجلة فورين بوليسي، والباحث في دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا بمجلس العلاقات الخارجية؛ أن أمورا كثيرة تغيرت في السياستين الخارجية والداخلية الأميركية جراء هجمات 11 سبتمبر.

وحسب رأيه، فإن الخطاب السياسي الأميركي عانى هو الآخر من "أكبر الأضرار الجانبية"، وبعد فترة وجيزة من سقوط برجي التجارة العالمية في نيويورك، وإطفاء الحرائق التي شبت في مقر وزارة الدفاع (بنتاغون)؛ إنهالت على الأميركيين مقالات وتعليقات تتناول بالتحليل منطقة الشرق الأوسط.

ويضيف كوك أن بعض تلك الأعمال كانت مفيدة، لكن كثيرا من النقاد والمعلقين والكتاب الذين نصبوا أنفسهم محللين لقضايا الإرهاب ألحقوا ضررا بليغا بالولايات المتحدة.

لقد كانت المعلومات الخاطئة عن الإسلام والعرب، وتاريخ وثقافة الشرق الأوسط وسياسته "مجحفة"؛ فكلمات مثل "المدرسة" و"الشريعة" استخدمت بحيث تبدو ذات دلالات "خبيثة".

ويمضي الكاتب إلى القول إن نوعية الحوار الوطني أتاحت فرصة "للمتزمتين المحترفين" للترويج لأجندة تبطن وراءها عنصرية وخوفا من الإسلام (إسلاموفوبيا). ولعله في هذه الحقبة بدأ الأميركيون سماع عبارات مثل "زحف الشريعة" والتغلغل المزعوم لجماعة الإخوان المسلمين في الحكومة الأميركية، إلى جانب مؤامرات أخرى تتعلق بالمنحدرين من الشرق الأوسط.

ونتيجة لذلك، استُهدف المسلمون والعرب -وأناس آخرون اشتُبه في انتمائهم لأحد الطرفين- في المطارات والأماكن العامة، ولربما مثل تلك الحوادث كانت ستقع بعد الهجمات حتى لو كانت تحليلات المعلقين والنقاد مستندة إلى مصادر واسعة الاطلاع.

لكن من الصعب مع ذلك -في رأي ستيفن كوك- تجاهل تأثير خطاب ما بعد 11 سبتمبر على النزعة القومية وتلك القائلة بتفوق البيض التي تنتشر اليوم.

الحرب فقدت بريقها كأداة للتغيير

ترى أنشال فوهرا (كاتبة العمود ومراسلة فورين بوليسي المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط والمقيمة في بيروت) أن تدخل الغرب في أفغانستان والعراق الذي طال أمده في أعقاب 11 سبتمبر كسر الإرادة الجماعية للولايات المتحدة كدولة وشعب في التورط في مزيد من الصراعات بالخارج.

فورين بوليسي: هل أحدثت هجمات 11 سبتمبر تغييرا في أميركا؟

وتعتقد الكاتبة أن هذا الشعور مفهوم؛ ذلك أن الولايات المتحدة فقدت الآلاف من جنودها وتريليونات الدولارات خلال العقدين المنصرمين، كما أخفقت محاولاتها في بناء الدولة في أفغانستان والعراق، وكل ما جنته سمعة دولية كدولة مشعلة للحروب.

وتخلى الرؤساء الأميركيون الآن ربما عن "أملهم الساذج" في إرساء الديمقراطية في دول استبدادية تمزقها النزاعات؛ فكل الرؤساء منذ جورج بوش الابن حاولوا وضع حد لتلك الحروب، والانسحاب من الشرق الأوسط، والانشغال بصعود الصين بدل ذلك.

وبانسحابه من أفغانستان، يكون جو بايدن أول رئيس أميركي ينجح في ذلك، لكن انسحابه ذاك -وفقا لأنشال فوهرا- تحول إلى كارثة إنسانية فادحة جعلت المحللين يتساءلون عما إذا كان احتفاظ الولايات المتحدة بوجود محدود يخدم بشكل أفضل الشعب الأفغاني والمصالح الأميركية على حد سواء.

وتعتقد فوهرا أن الهجوم الذي شنه "تنظيم الدولة-ولاية خراسان" على الجنود الأميركيين المغادرين والأفغان في مطار كابل يشير إلى أن أفغانستان ستبقى ملاذا "للإرهابيين" العازمين على الإضرار بالمصالح الأميركية.

وفي تقديرها أن الحرب -كأداة للتغيير في وقت فشلت فيه كل الوسائل- قد فقدت بريقها في النظام العالمي لما بعد 11 سبتمبر، لكن على العالم الحر أن يدرس إمكانية استبدال القوة العسكرية لمنع طاغية مستبد من استخدام أسلحة كيميائية، أو ردع "القتلة المتدينين" من حز رؤوس النساء، أو حماية الأقليات من المذابح.

11 سبتمبر أحدثت تحولا في العلوم السياسية

يقول سوميت غانغولي (كاتب العمود بفورين بوليسي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة إنديانا) إنه بوصفه أميركي من أصل هندي من النادر أن يتعرض لتحامل ومضايقات مثلما تعرض له بعد أحداث 11 سبتمبر.

وروى الكاتب أمثلة مما واجهه عقب تلك الأحداث من استهداف للاشتباه في أنه يشكل تهديدا محتملا، وذلك أثناء تنقله داخل الولايات المتحدة، سواء للقيام ببعض واجبات عمله كأستاذ جامعي وخبير في مجال مكافحة الإرهاب، أو للإدلاء بشهادته أمام اللجنة الأميركية حول حرية الديانات في العالم.

وتابع إن الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق أدى إلى الاهتمام مجددا بدراسة مكافحة ظاهرة الإرهاب وطرق مواجهتها وتمويلها من قبل المؤسسات الخاصة وحكومة الولايات المتحدة.

سلطة الدولة توسعت

لعل التغيير الأكثر ديمومة الذي أحدثته هجمات 11 سبتمبر يتمثل في الطريقة التي حوّل بها صناع السياسة في الولايات المتحدة القوة الأميركية الكامنة إلى قوة حركية خارج المجال العسكري، طبقا لبيتر فيفر أستاذ العلوم السياسية والسياسة العامة بجامعة ديوك.

وأوضح أن الحكمة السائدة تتمثل في أن الهجمات كانت حافزا لعسكرة السياسة الخارجية الأميركية، وأن هذا المفهوم ليس خطأ في مجمله؛ فالرؤساء المتعاقبون أحالوا جزءًا كبيرا من القوة العسكرية الكامنة إلى عمل عسكري.

وأشار إلى أن ميزانية الدفاع تضاعفت بين عامي 2001 و2008، وكذلك المخصصة للمساعدات الخارجية التي زادت إلى أكثر من الضعف خلال الفترة نفسها.

كما عمل صناع السياسة على الاستفادة من القوة الاقتصادية لأميركا في دعم أهداف السياسة الخارجية، وتظل القوات المسلحة عنصرا حيويا في القوة الوطنية، إلا أنها تبقى -في رأي فيفر- أداة تحظى بالدعم ويمكن الاستعاضة عنها في أغلب الأحيان بأدوات أخرى.

الحروب الأميركية ضد الإرهاب لم تنته

تؤمن الكاتبة بمجلة فورين بوليسي جانين دي جيوفاني بأن 11 سبتمبر غيّرت كل شيء. وتقول إن الحروب التي غطتها كمراسلة صحفية في تسعينيات القرن المنصرم من البوسنة إلى سيراليون كانت مروعة ووحشية، لكنها كانت نابعة إلى حد كبير من تناحر عرقي أو قبَلي، أو كانت نتاجا لانعتاق جمهوريات من ربقة الاستعمار، أو كانت من مخلفات الحرب الباردة.

وروت كيف أنها تنقلت بين مناطق الصراعات في العالم حتى حطت الرحال في أفغانستان، حيث كانت شاهدة عيان على سقوط كابل في أيدي قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2001.

وقالت إن ثمة قاسما مشتركا بين الحروب التي غطتها بعد 11 سبتمبر تمثل في حركات التمرد، وبروز الجماعات المتطرفة وصعود النزعة الجهادية.

وتعتقد دي جيوفاني أن رد فعل الولايات المتحدة على هجمات 11 سبتمبر حوّل الصراعات إلى حروب ضد الإرهاب، في جين باءت محاولاتها المتزامنة لبناء الدول بفشل ذريع.

وأردفت القول إن معظم الصراعات التي اندلعت بعد 11 سبتمبر هي حروب بالوكالة أثارتها قوة دولية كبيرة ثم انخرطت فيها دول أخرى في المنطقة مثل ما يحدث في اليمن، وسوريا، وحتى أفغانستان، وقريبا إثيوبيا.

الولايات المتحدة لم تعد قوة لا غنى عنها

من وجهة نظر ستيفن ويرثيم (الباحث في برنامج فن الحكم والإدارة بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي) فإن 11 سبتمبر أحدثت تغييرا في طريقة فهم الولايات المتحدة لدورها في العالم، لكن ليس بما كان يصبو إليه قادتها.

وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي -كما يقول ويرثيم- آثرت الولايات المتحدة عدم تقليص قوتها القهرية حول العالم، بل سعت لإضفاء معنى لهذه القوة الهائلة.

ونقل الكاتب عن وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك مادلين أولبرايت القول عام 1998 "إذا اضطررنا لاستخدام القوة، فلأننا أميركا، فنحن دولة لا غنى عنها".

ويعلق ويرثيم على ذلك التصريح بأنه في غياب أي تهديد كبير، وفي أوقات الرخاء، لم يكن من الواضح حينذاك مقدار العبء الذي يستطيع المواطنون الأميركيون تحمله لكي يجعل بلدهم لا يمكن الاستغناء عنه في أنحاء العالم.

وبدا للوهلة الأولى أن هجمات 11 سبتمبر حلت تلك المعضلة بإضفاء صبغة دلالية على القوة الأميركية تستند إلى هدف غير قابل للنقاش.

وإذا كان مصطلح "دولة لا غنى عنها" يعني في ذلك الوقت شن حرب عديمة الجدوى ولا نهاية لها، فإن الولايات المتحدة كانت بحاجة إلى طريقة جديدة للتواصل مع العالم.

لقد نبذ الرئيس السابق دونالد ترامب المفهوم القائل إن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية حراسة النظام العالمي بالقوة، رغم أنه واصل انتهاج سياسة الهيمنة العسكرية "المغلفة بنزعة قومية مظلومة".

والآن، فقد سحب خليفته جو بايدن القوات الأميركية من أفغانستان، متعهدا بوضع حد "لحقبة من العمليات العسكرية الكبيرة الرامية إلى إعادة تشكيل الدول الأخرى".

وطبقا لستيفن ويرثيم، فإن قيادة أميركا للعالم بالكاد تقترب من نهايتها "بل على العكس فمن المرجح أن تزداد منعة ونفوذا بعد أن تتحرر من الصراعات باهظة التكلفة".

ويختم بالقول إن الولايات المتحدة ستصبح بعد عقدين من الآن دولة من بين الدول، لن تعود تستأسد بقوتها على الآخرين للحصول على ما تريد.