مخرج "في يد الله" للوثائقية: "أجد متعة كبيرة في تصوير الوثائقيات عن الإنسان وعلاقته بالطبيعة"

حاوره: أيوب واوجا

عاش الفيلسوف اليوناني ديوجانس (نحو 421-323 ق.م) وفق فلسفة تقوم على الزهد، وتؤمن بأن الحكمة لا تتحقق إلا بالانعتاق والتحرر، فقد عاش ديوجانس نصف حياته وهو يقطن ببرميل، إذ يرى أن السبيل لتحقيق الحرية يستلزم تفكيك القيم والأعراف التي تُكبّل حياة الإنسان، وأن على الفرد كي يتحرر أن يقترب قدر المستطاع من الطبيعة، ويكتفي بالذات قصد التخلص من كل أنواع الحاجات والارتباطات.

من أشهر الحكايات التي ترتبط بالفيلسوف ديوجانس وتشكل مدخلا لفهم فلسفته، هي تلك التي وقعت له مع الإسكندر الأكبر عندما مرّ بقرب برميل ديوجانس، فوقف أمامه رفقة حاشيته سائلا إياه إن كانت له حاجة حتى يحققها له، فردّ عليه ديوجانس: نعم أرجوك تحرّك قليلا، لأنك تحجب عني ضوء الشمس.

ذكرنا حكاية فيلسوف الزهد في العيش ديوجانس، لأنها تشابه قصة بطلي الفيلم الوثائقي "في يد الله" الذي عُرض على قناة الجزيرة الوثائقية قبل أيام، ويحكي قصة سمير الملقب بـ"عمو"، فقد اختنق بالروتين اليومي للعمل والمدينة، وقرر شدّ الرحال دون موعد للبحث عن صديقه سعيد عكلي الذي يعيش خارج إطار الزمن والتقدم التكنولوجي، فسعيد لا يستعمل الهاتف ولا أي وسيلة تواصل حديثة، ويعيش وفق أسلوب حياة شبيه بحياة الفيلسوف اليوناني ديوجانس.

في هذا الحوار الذي أجرته الجزيرة الوثائقية يحدثنا مخرج الفيلم الشاب محمد رضا كزناي عن حيثيات هذا العمل الوثائقي.

فعلا الرحلة كانت في يد الله، في البداية كان لدينا تصوّر عام للقصة، لكن في طريقنا صادفتنا عدة أمور قمنا بإدراجها في الفيلم، وهناك أيضا أحداث فرضت نفسها علينا مثل حلول شهر رمضان، حيث كنا نتوقع وصولنا إلى سعيد قبل ذلك، وكنا في كل صباح عند استيقاظنا نتأقلم مع الطريق والأحداث التي تصادفنا، مما جعل هذا الفيلم يحتوي على المشاهد الحيّة والعفوية، هذه الصدف أعتبرها هدايا من الله.

أما بالنسبة لعنوان الفيلم فقد استوحيته من كلام سعيد، فعندما حكى عمو له ما حصل معنا أثناء الرحلة أجابه "كنتم في يد الله"، وعند تحليل الأمر أجد أننا فعلا كنا في يد الله.

وبالنسبة لي أؤمن بأن الفيلم الوثائقي هو رحلة بحث، وأنه ليس بالضرورة أن تُحكم كتابته مسبقا، بل يمكن أن تستمر الكتابة أثناء التصوير، وتنتهي الكتابة النهائية بالمونتاج.

المخرج المغربي محمد رضا كزناي صاحب الفيلم الوثائقي "في يد الله"

بعد نجاح فيلمي القصير "الشيخ والجبل" الذي قمت بإخراجه أثناء دراستي بسلك الماجستير المتخصص في السينما الوثائقية بتطوان، ومشاركته في عدة تظاهرات سينمائية دولية، وفوزه بعدة جوائز من بينها جائزة أحسن فيلم وثائقي قصير في الدورة الـ35 لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر الأبيض المتوسط، والجائزة الكبرى (Adobe Best of The Best) لمهرجان جامعة زايد السينمائي (ZUMEFF) بدبي؛ قررت أن أخوض تجربة الفيلم الوثائقي الطويل، وكنت شغوفا بفكرة التعامل مع قناة الجزيرة الوثائقية لتنفيذ فكرة مشروع فيلمي "في يد الله"، فأرسلته وكلي أمل بتحقيق هذا الحلم.

مخرج

أظن أن فكرة الفيلم كانت مغامرة، فقد اعتمدت على أسلوب الزمن القديم الذي افتقدناه بسبب التكنولوجيا الحديثة، إذ توسع الفيلم على مقولة سعيد لعمو: إذا رغبت في الحديث معي، تكبّد عناء الطريق وابحث عني.

ومن هنا أشكر قناة الجزيرة الوثائقية التي آمنت بي وبمشروع فيلمي، وكان لها الفضل في نجاحه بهذا المستوى الاحترافي العالي، بإشراف طاقمها الذي رافق تطور الفيلم إلى أن أصبح كما شاهدتموه، سعدتُ كثيرا بهذا الإنجاز الذي دفعني للمُضي قدما من أجل الاستمرار في صُنع أفلام تُعبر عن أفكاري وفلسفتي في السينما.

أظن بأن الفيلم أخذ وقته الكافي، فقد قمنا بتصويره قبل شهر رمضان الماضي (2020) إضافة إلى بعض أيامه الأولى، وبعد انتهائنا من التصوير، كنت متحمسا جدا لبدء عملية ما بعد الإنتاج، ولم أكن أتهاون في مسؤولية إتمامه بالشكل الذي أطمح إليه في الوقت المطلوب، وساعدني على ذلك الفريق الذي قمت باختياره بعناية.

أنا سعيد جدا بعرضه خلال هذا الشهر الفضيل، وسعيد بالتفاعل الإيجابي الذي تلقاه من قبل الجمهور.

ملصق الفيلم الوثائقي "في يد الله" الذي تم تصويره في منطقة "أكدز" في الصحراء الشرقية للمغرب

"عمو" الشخصية الرئيسية لفيلم "في يد الله" هو في الأصل خالي، وكنت أشعر عن قُرب بمعاناته وتخبطاته في العمل وروتينه اليومي وحنينه الدائم إلى الماضي، وذات يوم حدثني عن صديق له اسمه سعيد، وحكى لي عن الحوار الذي دار بينهما، وأنه لا يستعمل الهاتف الخلوي مطلقا، ويريد الذهاب في رحلة لزيارته، والابتعاد قليلا عن الدوامة التي يعيش فيها، ليستعيد ذاته التي أنهكها صخب الدنيا.

أعجبت بهذه الفكرة، وشعرت أن وراء هذا الحوار قصة تصلح أن تكون فيلما وثائقيا يستحق خوض المغامرة. وبما أن الرحلة ستكون مشيا على الأقدام، فقد اخترت فريقا بعناية كبيرة، بروح المغامرة والمسؤولية والاحترافية، وكان كل واحد منا قادرا على إتقان عدة مهام، لأن هذا النوع من الأفلام بالنسبة لي لا يفضل أن يكون طاقم الفيلم كبيرا، فظروف التصوير تكون قاسية جدا، وعلينا المشي والتصوير في الوقت نفسه، واستعنا بالبغال لحمل معداتنا وملابسنا وخيامنا، فمن الصعب تسيير عدد كبير من الأشخاص وسط هذه الظروف التي تعتمد في الأساس على قدرة التحمل.

بطل الفيلم سمير الملقب بـ"عمو" الذي اختنق بالروتين اليومي للعمل والمدينة، وقرر شدّ الرحال دون موعد للبحث عن صديق له

لقد عشقت الترحال منذ طفولتي، حيث كنت أسافر مع أمي وأبي اللذين كانا يأخذانني معهما في رحلات المشي بالمناطق الطبيعية التي يصعب الوصول إليها، واستمرت هذه الهواية بالنمو بداخلي، وكلما سنحت لي الفرصة أقوم بمغامرة لزيارة أماكن جديدة. هذا ما جعلني أجد متعة كبيرة في تصوير الأفلام الوثائقية عن الإنسان وعلاقته بالطبيعة، فحجم حُبي للطبيعة والسفر يُعادل حبي للسينما والإبداع.

لا شك أنني عاشق لأفلام الترحال والمغامرة، وإن شاء الله سأقوم بإخراج أفلام وثائقية من هذا النوع مستقبلا، خصوصا أن المغرب بلد يتميز بجغرافيته الفريدة والمتنوعة، وكذلك احتواؤه على ثقافات متعددة تستحق الاهتمام والتوثيق، وهذا لا يعني أنني لن أصنع أصنافا أخرى من الأفلام سواء وثائقية أو روائية، فمن طبعي اتباع إحساسي الداخلي الذي أستمد منه الإلهام، ومن الضروري بالنسبة لي أن أؤمن بموضوع الفيلم الذي سأقوم بإخراجه، فعليه أن يتماشى مع فلسفتي ورؤيتي في الحياة.

كواليس تصوير فيلم "في يد الله" للمخرج محمد رضا كزناي، والذي تم تصويره في منطقة أكدز بالصحراء الشرقية للمغرب

بالرغم من عدم نفينا للإقبال الذي تلقاه هذه الفيديوهات التي يطلق عليها "فلوغز" (Vlogs) من قبل الجمهور الشاب، فإننا لا نستطيع مقارنتها بالفيلم الوثائقي الذي يعتمد على أسس وقواعد مهنية، إضافة إلى الإبداع، باستخدام الآليات التي تخولها عملية الإنتاج السينمائي، فمن شأنها أن ترقى بالمتفرج وتجعله يتساءل أحيانا، ويبكي أحيانا، ويضحك أحيانا أخرى، كما تفعل حواسه وإدراكه، ليجد نفسه أمام مرآة، هذه الأمور لا نجدها إلا في السينما، لأنها تغوص في عمق الإنسان.

فيلمنا "في يد الله" لم يعتمد على لقاء عمو بسعيد، ففي أثناء رحلتنا لم نعرف ما إذا كنا سنجد سعيد في بيته أم لا، وكان عمو ينوي أن يترك له رسالة إذا لم يجده في بيته، وبالنسبة لي فسعيد ليس هو الهدف، بل الوسيلة التي دفعت عمو لخوض هذه الرحلة والبحث عن سعادته في الطريق، ولحسن حظنا فقد تذوقنا سعادة الطريق وسعادة لقاء سعيد.

لحظة اللقاء بسعيد العكلي الذي يعيش خارج إطار التقدم التكنولوجي، فهو لا يستعمل الهاتف ولا أي وسيلة تواصل حديثة

بحكم أنني خريج ماجستير متخصص بالسينما الوثائقية، وأيضا حاصل على تكوينات أخرى في مجال السينما والسمعي البصري، وبحكم تجربتي المتواضعة في هذا المجال؛ فإنني أرى أن الشغف ضروري جدا، لكنه ليس كافيا لوحده، بل من المهم أن يتعزز الشغف والموهبة بالتكوين والبحث والممارسة، ومواكبة المستجدات في المجال، فالتكوين يعطيك مساحة لمعرفة ذاتك، وامتحان قدراتك بفعل الاحتكاك الذي تعيشه في محيط يشاركك حُب السينما وحب التطور والتميز، وأيضا يخوّل لك التقرب من المهنيين في المجال والاستفادة من خبرات الأساتذة، فأنا أعتبر أن التكوين هو الوقود الذي سيزيد من إشعال موهبتك ليصبح شغفك أكثر توهجا.

في نهاية الفيلم ودّع سعيد صديقه عمو وقال له "مثلما أتيت لزيارتي، ربما آتي لزيارتك يوما ما". عندما سمعت هذا الكلام أحسست بشرارة قصة فيلم جديد، لكنني لا أعلم إن كانت ستبدأ حقا.