دراسة تحليلية في مسيرة القائد الشيخ جمال أبو الهيجا: من الجهد الدعوي إلى نهج المقاومة - CAUS - مركز دراسات الوحدة العربية

مقدمة:

تهدف هذه الدراسة لتسليط الضوء على مسيرة وتاريخ القائد الشيخ الفلسطيني جمال أبو الهيجا الذي رفع راية المقاومة وأمضى حياته إما معتقلًا في السجون الإسرائيلية، أو مطارَدًا من الاحتلال، وهو عضو المكتب السياسي لحركة حماس الذي اعتُقل عند السلطة الفلسطينية وما زال معتقلًا في السجون الإسرائيلية ومحكوم عليه برقم فلكي (تسع مؤبدات و20 سنة)، وتحمَّل معاناة الإصابة برصاصة الاحتلال مما أدى إلى بتر ذراعه وهو مطارَد، وعلى الرغم من كبر سنه لم يتوانَ في الدفاع عن القضية الفلسطينية، ففكره وشخصيته الجذابة ساعدته في قيادة المقاومة في الانتفاضة الثانية عام 2000.

أولًا: حياته الشخصية والتنظيمية

أن تجد في كل أمة من يغذوها بزيت التوهج، ويؤجج اشتعالها كلما شارفت على الانطفاء، والذين يقومون بهذه الخدمة الجليلة، فهؤلاء هم رجال القلب، المنتشرون بمدارسهم في بقاع كثيرة من العالم، من أجل هذا العمل البطولي الذي لا يقوى عليه إلا رجال من ذوي العزم والإرادة. والشيخ جمال كان من هؤلاء الرجال الذين رسموا معالم الطريق لقضيتهم[1].

1- نبذة مختصرة عن حياته الشخصية

جمال عبد السلام أبو الهيجا، ينحدر من عائلة مجاهدة من قرية عين حوض في قضاء حيفا، حيث لجأت العائلة عقب النكبة 1948 إلى مخيم جنين فكان الميلاد في 25 تشرين الثاني/نوفمبر1959، وله أربعة من الأبناء وابنتان. درس أبو الهيجا في مدارس وكالة الغوث الدولية في المخيم حتى أنهى المرحلة الابتدائية والإعدادية، ودرس المرحلة الثانوية في جنين ليلتحق بالكلية العربية لإعداد المعلمين في عمان عام 1980 فحصل على دبلوم تربية إسلامية. عمل أحد عشر عامًا في التدريس في اليمن والسعودية[2]، وتتلمذ في الأردن على يد الشيخ الدكتور عبد الله عزام، وفي عام 1990عاد إلى مسقط رأسه[3].

كان الشيخ جمال مدرسة في الدعوة والقدوة والالتزام، تأثر بها ثلة كبيرة من الشباب الذين أصبحوا فيما بعد قادة وشهداء وأصحاب تأثير في المجتمع[4]. بعد عودته إلى أرض الوطن في خضم الانتفاضة الأولى ساهم مساهمةً كبيرة في رفد الحركة الإسلامية بخبرته المتراكمة حيث شكل حضنًا دافئًا لمعظم الشباب الملتزم، فوجوده في المخيم والمنطقة كان له أثر كبير في دعم الدعوة الإسلامية والمقاومة[5].

توفي والد الشيخ جمال وهو في التحقيق سنة 2003، قُصف منزله بصاروخين (وعائلته داخل المنزل) في أيار/مايو 2002، وبعد شهر تقريبًا اقتحم الاحتلال المنزل وحقّق مع كل أفراد الأسرة بحثًا عن مـكانه وبعد أن فشلوا في الحصول على أي معلومة أحرقوا المنزل بالكامل في حزيران/يونيو 2002، واستُشهد ابنه حمزة وهو في السجن في 22 آذار/مارس 2014 [6].

2- حياته التنظيمية

لقد كان الراحل عبد الله عزام يدعو مع انطلاق حركة حماس الشباب الفلسطينيين الذين يستطيعون العودة إلى فلسطين للعودة من أجل الذود عن أرض وطنهم، وترافق نداؤه العزام هذا مع إعلان الشيخ أحمد ياسين انطلاق حماس عام 1987، ودعوة المجاهدين للحاق بالركب، فكان الشيخ جمال من أوائل المستجيبين للعودة إلى فلسطين؛ فعاد بأهل بيته إلى جنين لينغمس مباشرة في ميدان العطاء والمقاومة[7].

وكان للشيخ جمال دور مباشر في التواصل مع حركة الإخوان، وذلك أثناء مروره في رحلته بعدة محطات من الأردن إلى اليمن فالسعودية ومن ثم عودته إلى فلسطين ليكمل مشواره في الدعوة والمقاومة. وعندما تأسست حركة حماس في بداية الانتفاضة الأولى عام 1987، كان من أكبر المتفاعلين معها حيث أصبح مرجعية للشباب[8]. وكان المبادر لاحتضان كل مطارَد من الاحتلال إذا ضاقت به السبل، منهم عادل عوض الله ومحي الدين الشريف ومحمود أبو الهنود ونصر جرار وقيس عدوان ونزيه أبو السباع ومحمود أبو حلوي وغيرهم الكثير[9].

كما عمل ناطقًا باسم حماس ومنسقًا لها في لجنة القوى الوطنية والإسلامية في سنوات الانتفاضة الأولى، وبقي الشيخ يقوم بذلك حتى انخراطه في العمل الجهادي، ومطاردته واعتقاله. وقد تمنى الجميع لو أن الشيخ بقي في عمله السياسي ولم ينخرط في المقاومة نظرًا إلى الفراغ الكبير الذي تركه[10]. لقد كان لصدقه ونقاء خلقه ومواقفه التي يعرفها الجميع أثر في قلوب كل الوطنيين[11].

دراسة تحليلية في مسيرة القائد الشيخ جمال أبو الهيجا: من الجهد الدعوي إلى نهج المقاومة - CAUS - مركز دراسات الوحدة العربية

3- دوره الاجتماعي والخدماتي في المخيم وجنين

الشيخ جمال كقائد في حماس كان له دور مكمل ومهم لدور سائر القادة في الفصائل فكان يتميز بهمته العالية ونفَسه الطويل، وكان يسعى لتقديم كل ما أمكن من أجل التخفيف عن أهلنا ومساعدتهم في مواجهة مشقات الحياة اليومية. فكان له دور اجتماعي وخدماتي مؤثر وبخاصة أنه عمل في لجان الزكاة التي كانت تعمل على تبنّي الأيتام وتقديم المساعدات الدراسية والتموين وترميم بعض البيوت، وحتى شراء الأدوية والعلاج[12]. وفي عام 1996 تألفت لجنة مؤازرة في مخيم جنين، للمطالبة بحقوق أهالي المخيم، وتحسين خدماتهم، فكان للشيخ دور بارز ومؤثر فيها[13].

الشيخ جمال شخصية كاريزمية ذات جاذبية خاصة، وقد كان لوالده الأثر الكبير في تربيته ونشأته، فالوالد الشيخ عبد السلام أبو الهيجا كان مؤذنًا ويؤمّ في الناس في مسجد المخيم، وما كان الشيخ إلا أحد الأبناء النجباء الذين تشربوا حب الوطن وحب الدفاع عنه، وقد أثبتت السنون أن الشيخ جمال قد أبدع في خدمة الفكرة التي يحملها. يروي إسلام جرار أنه حين أصيب الشيخ في الاجتياح الأول للمخيم في آذار/مارس 2002، أجريت له عملية جراحية وخرج من المستشفى، ذهبت إليه وطلبت منه النزول إلى المخيم حتى يطمئن الناس عليه، وبالفعل استجاب لي وما إن وصل المخيم حتى تجمهر حوله الرجال والنساء والشباب والأطفال والصحافة، فالكل يريد أن يحظى برؤيته أو الحديث معه، ولأن عملية البتر لم يمض عليها إلا ساعات، فجأة بدأ يشعر بالدوران وأصابته دوخة شديدة فأمسكنا به وبصعوبة بالغة أخرجته بالسيارة من بين الجموع وذهبنا به إلى أحد بيوت المخيم[14].

وعلى الصعيد الاجتماعي والشعبي، كان حاضرًا في ذهن الشيخ أن المخيم أمام معركة مصيرية وحصار قد يطول، فتراه يشرف بنفسه ويوجه من ينشط في شأن توزيع المستلزمات الغذائية الضرورية على أزقة المخيم حتى لا يجوع الناس إذا ما العدو تجاوز كل الخطوط وحارب الناس في لقمة عيشهم، فقد كانت تجربة حصار المخيمات الفلسطينية في لبنان حاضرة في ذهن الشيخ، وبالفعل بعد أقل من ثلاثة أسابيع من عملية الاجتياح الأول، بدأت عملية حربية كبيرة لجيش الاحتلال هدفها اجتياح المخيم، في الأول من نيسان/أبريل 2002، ومنذ اللحظة الأولى لانسحاب العدو بدأ الشيخ جمال يسعى بكل جهد لتوفير كل ما يمكن من مقومات الحياة لأهل المخيم الذين دمرت منازلهم[15].

4- دوره في المقاومة ومعركة مخيم جنين

لقد كان للشيخ دور كبير في إدارة المقاومة والإشراف عليها قبل انتفاضة الأقصى، وكان لوجوده في المخيم أثر كبير في صعود مقاومة حماس، بل والمقاومة بوجه عام. فقد ساهم مساهمة كبيرة في دعم المقاومة وتطويرها في المنطقة[16]. وبرز دوره في قيادة حماس مع اندلاع شرارة انتفاضة الأقصى، وقد طاردته سلطات الاحتلال على مدار ثلاث سنوات[17] .

لقد أتقن الشيخ الدور المقاوم كما الدور الدعوي، فهناك الكثير من الدعاة، ولكنهم لا يملكون جرأة الشيخ ولا استعداده للتضحية. فكان الشخصية الأكثر تأهيلًا لممارسة الدورين معًا، وكان بيته قبلةً لكل المقاومين من كل الفصائل، كما ساهم مساهمة كبيرة في الإعداد لمعارك المخيم[18]. وعندما سئل الشيخ عن تحوله من الدور الدعوي إلى الدور المقاوم، أجاب بأنه لم يكن تحولًا بمعنى التحول إنما المطلوب من المسلم أن يكون في الموقع المطلوب في الوقت المناسب وهذه هي روح الدعوة، عندما يكون المطلوب منا أن نكون في التربية أو العمل السياسي أو الجماهيري، نكون فيه، وفي الوقت الذي يجب أن نكون في المقاومة نكون في المقاومة[19].

ولم يكن كلام الشيخ ذلك مجرد شعارات، بل كان فعلًا عمليًا ملحوظًا في الميدان. فمع بداية الانتفاضة كان من المتصدّرين للمسيرات، ويتقدم إلى الصف الأول بالمواجهة حاملًا المقلاع بيده على بعد أمتار من حواجز الجيش جنبًا إلى جنب مع الشباب والأشبال، وكان الشيخ يقول “إن حياتي ليست أغلى من حياة أي شاب، وفي الوقت الذي يتوافر فيه البديل عن المواجهة بالحجر فستكون الدعوة لكل الشباب أن يحفظوا جهودهم إلى ما يؤلم العدو أكثر وأكبر”، وما ميز الدور الذي أجمع عليه كل من عايش الشيخ جمال هو احتضانه ودعمه لكل المقاومين، فهو لا يتوانى عن توفير الدعم لأي مقاوم، حتى أن منزله كان المأوى الذي يجمع كل المقاومين، ففيه يلتقي المجاهدون وينسقون خطواتهم وخططهم، ما هي إلا أسابيع وإذا بعمليات المقاومة تضرب في شتى المدن الصهيونية وعلى طرق المستوطنات[20].

لم يتوقف احتضان الشيخ جمال المقاومين من جنين ومخيمها فحسب، بل بات الملاذ الآمن لكبار القادة من أنحاء الضفة، حتى في انتفاضة الأقصى، حين وصل إليه محمود أبو الهنود ونسيم أبو الروس وجاسر سمارو ومجدي بلاسمة من نابلس وسائد عواد من طولكرم وجميل جاد الله من الخليل ليوفر الملجأ لهم وكلهم بقي عنده لأسابيع وأشهر وأعدوا عدتهم انطلاقًا من منزله الذي غدا حصنًا منيعًا لكل مقاوم[21].

وفي أيار/مايو 2001 كانت مجموعة من المقاومين بقيادة القائد القسامي نصر جرار تكمن على الطريق الالتفافي قرب بلدة قباطية وتزرع عبوة ناسفة وتنتظر دورية احتلالية لتفجر العبوة ثم تطلق النار عليهم، إلا أن العبوة تعطلت مما اضطر جرار أن يعاود اختبار العبوة، لكن إرادة الله قضت أن تنفجر وهو قريب منها لتبتر ساقاه ويده اليمنى ويصاب بجروح بالغة، وظن إخوانه الذين كانوا معه في المجموعة أنه استشهد فغادروا المكان، وبعد ذلك انطلق المئات من أهالي المنطقة ليبحثوا عن جرار لكن قوات الجيش الصهيوني كانت قد وصلت إلى الشارع الالتفافي ولم تعلم أنه على بعد أمتار منهم، ورغم خطورة الموقف ما كان من الشيخ جمال ومعه أخ آخر إلا أن تقدموا الصفوف وقوات الاحتلال تنظر نحوهم حتى وصل الشيخ إلى جرار ليحمله باستعانة صديقه لينقذ حياته وليظل مطاردًا يصارع الاحتلال أشهرًا بعد ذلك[22].

يذكر أن الشيخ جمال كان له دور مهم بالتعاون الكامل مع الشيخ نصر جرار قائد كتائب القسام في جنين في التحفيز والتسريع منحماس في الانتفاضة، وكانوا من أوائل قادة حماس الذين سارعوا وانخرطوا في الانتفاضة من خلال تشكيل الخلايا وتقديم الدعم، وبخاصة أن حركة حماس تأخرت ستة أشهر تقريبًا حتى انخرطت بشكل كلي في الانتفاضة[23]. تولى الشيخ جمال قيادة الجناح العسكري لحركة حماس في شمال الضفة وأشرف على تنفيذ الكثير من العمليات الفدائية الجريئة، وهو ما جعل الاحتلال يجتهد في محاولة قتله أو أسره حتى تم له ذلك[24].

وفي شهر آب/أغسطس 2001، أبلغت أجهزة أمن السلطة في جنين الشيخ جمال أنها تلقت من الاستخبارات الصهيونية معلومات تفيد أن مقاومًا فدائيًا من الداخل المحتل، موجود في جنين ومطلوب من أجهزة أمن السلطة أن تعتقله، والمعلومات تفيد بأنه لجأ إلى كتائب القسام في جنين، وحاولت السلطة إيصال التهديدات للشيخ بأنه سيتم اغتياله إذا نفذ هذا المطارد أي عملية فدائية، لكن جهود السلطة وتهديدات الاحتلال لم تفلح حيث نفذ الشهيد محمد شاكر حبيشة عمليته بعد أيام رغم كل احتياطات الاحتلال في مدينة نهاريا المحتلة وأوقع العديد من القتلى والجرحى في صفوف الاحتلال. وقد وجهت الاستخبارات الصهيونية تهمة الإعداد لهذه العملية والعديد من العمليات البطولية إلى الشيخ جمال. ومن أبرز تلك العمليات التي اتهم بال والإشراف عليها عملية حيفا في 31 آذار/مارس 2002، التي نفذها الاستشهادي شادي الطوباسي وأسفرت عن مقتل خمسة عشر صهيونيًا، وعملية الشهيد عز الدين المصري في مطعم سبارو في القدس وأسفرت عن سقوط عدد مشابه من القتلى ردًا على اغتيال القياديَّين جمال منصور وجمال سليم، إضافة إلى عملية صفد التي نفذت ثأرًا لمجزرة حي الدرج التي استهدفت اغتيال القائد الأول لكتائب القسام الشيخ صلاح شحادة وأسفرت عن مقتل تسعة صهاينة[25].

مثلت معركة مخيم جنين محاور مهمة لا يستطيع أن يغفل ذكرها أي مؤرخ أو باحث أو قائد سياسي أو عسكري وهو يسعى لصوغ سياسات استراتيجية في مشروع المقاومة، فبدون تلك القواعد يصعب أن يكون هناك إنجاز، فهناك ثلاثة قوانين نوعية أبدع ذلك المخيم الصامد في رسمها بدماء أبنائه، أولها الروح الفدائية والجرأة الباسلة، ثانيها الوحدة الميدانية، وثالثها الشخصية القيادية صاحبة الإرادة والعزيمة، تلك النقاط الثلاث تجسدت في المكان والزمان والإنسان، أما المكان فهو مخيم جنين والزمان كان في نيسان/أبريل 2002 في ذروة الانتفاضة، أما العامل الثالث فقد تجسد بقادةٍ عظام كان أبرزهم الشيخ جمال. فكانت المعركة البطولية التي صمد فيها المقاومون واستشهد أكثر من ستين مجاهدًا نصفهم من المقاومين مقابل ثلاثة وعشرين جنديًا صهيونيًا، ولما احتدمت المعركة ووقع عدد من الجنود الصهاينة تحت نيران المجاهدين تدخل الصليب الأحمر وجهات دولية لوقف المعركة وكان شرط جيش الاحتلال أن يسلم المطاردين أنفسهم وأبرز من تم المطالبة بهم الشيخ جمال[26].

يذكر أن الشيخ ظل يراقب رغم عمق جراحه أحداث المعركة ويتواصل ويتابع مع المجاهدين في الميدان، وفي ذلك الوقت كانت قد وضعت خطة للقاء الشيخ جمال بالقائد القسامي قيس عدوان؛ ليتم تنفيذ عمليات مباغتة للعدو من خلال استشهاديين أثناء فترة الاجتياح يخرجون ويتسللون إلى قلب الكيان، لكن خللًا في الخطة قد وقع مع عدوان أدى إلى توجهه إلى طوباس حيث كان غدر الاحتلال وعملائه بانتظاره حين تمت محاصرته مع خمسة من مجاهدي القسام استشهدوا جميعًا على أرض طوباس، ولما سمع الشيخ جمال بهذا الخبر أصر على الثأر لدماء الشهداء، وانتهت المعركة ولم يتمكن الاحتلال من الوصول إليه رغم حجم الدمار وانتشار الموت في كل أزقة المخيم[27]، ومن عرف الدور البطولي الذي قام به هذا المناضل الشجاع لم يخفَ عليه سر قسوة الحكم العجيب الغريب إذ كان الشيخ جمال أحد أبرز رموز المقاومة[28].

يقول القائد الأسير القسامي سليم حجة يعد الشيخ جمال من الشخصيات القيادية المهمة التي وفرت للمقاومة غطاءً سياسيًا، ولم يؤثر تسلمه للقيادة في نفسيته، فهو متواضع جدًا، بشوش، حازم في استرداد الحقوق لأصحابها، ويتابع أحوال العامة، وخصوصًا أهالي الأسرى والشهداء[29]. وقد تبين فيما بعد أن القائد الشهيد عادل عوض الله الذي كانت تبحث عنه أجهزة السلطة والاحتلال كان في ذلك الحين تحت رعاية الشيخ جمال، وقد كشفت الأيام لاحقًا أن المهندس القسامي الثاني الشهيد محيي الدين الشريف كان أيضًا في رعاية الشيخ جمال[30].

5- الإصابة وبتر ذراعه

يتحدث الشيخ عن إصابته في معركة مخيم جنين في شهر آذار/مارس 2002، بعد صلاة العشاء تقريبًا وفي حارة مسجد اﻷنصار “وقعت في كمين، وكان معي ثلاثة من الشباب، منهم المهندس القسامي أبو رغد، تعرضنا لإطلاق نار عن قرب أصبت أنا وأحد الشبان، وبعد ذلك وصلنا بصعوبة بالغة، ببسالة رجال الإسعاف إلى المستشفى، وكانت الإمكانات الصحية في جنين لا تستطيع إلا القيام ببتر الذراع لصعوبة الإصابة، وكان الوضع الأمني لا يسمح لي بالخروج من جنين”[31]. ويبين إسلام جرار بهذا الخصوص أن رصاصة متفجرة أصابت يد الشيخ اليسرى وتوزعت الشظايا على جسده، فنجى الشيخ بعد أن كانت تفصله عن الشهادة لحظات، وقرر الأطباء بتر يده اليسرى وما هي إلا ساعات حتى خرج مبتسمًا معزيًا نفسه بكل سرور قائلًا إن يده الآن سبقته لتشهد له بإذن الله في جنات النعيم[32].

ثانيًا: المطاردة والاعتقال والعزل

لقد أمضى الشيخ أكثر من عقدين من حياته أسيرًا متنقلًا بين سجون الاحتلال، وما زالت هذه الصفحة الدامية مفتوحة تسيل منها الآلام. لقد تحدثنا سابقًا عن حياة الشيخ مناضلًا ومقاومًا مطاردًا وجريحًا، فمن البديهي أن تكون محطته التالية أسيرًا ومعذبًا ومعزولًا ومستهدفًا.

1- من جانب الاحتلال الإسرائيلي

اعتقل لأول مرة في 11 تشرين الأول/أكتوبر 1992، وأُفرج عنه في العام نفسه، ثم اعتقل مرة أخرى في 29 كانون الثاني/يناير 1993 وأفرج عنه في 17 أيار/مايو 1993، واعتقل في أيلول/سبتمبر 1995، وأفرج عنه في كانون الأول/ديسمبر 1995 [33]. كما اعتقل في نيسان/أبريل 1998، عقب استشهاد المهندس محيي الدين الشريف بأشهر، ليقاد إلى التحقيق المشدد لمعرفة معلومات عن مكان الشهيد عادل عوض الله لكن الشيخ جمال أبى أن يتحدث بكلمة واحدة[34]، وأفرج عنه في تموز/يوليو 1999، واعتقل في 26 آب/أغسطس 2002، حيث صدر الحكم بحقه في 11 نيسان/أبريل 2005، من جانب المحكمة العسكرية الصهيونية بالسجن تسع مؤبدات، وطاردت سلطات الاحتلال الشيخ لأكثر من ثلاثة أعوام قبل أن يعتقل، كما أنه كان على لائحة المطلوبين للاغتيال والتصفية[35].

وخلال عملية اعتقاله الأخيرة كان معه إسلام جرار وكان يردد “حسبنا الله ونعم والوكيل” تحت أصوات الانفجارات والرصاص والقنابل والعدو ينادي أنه سيهدم المنزل وما كان منه إلا أن قال لجرار “إنني اخترت الشهادة” وخيَّره أن يستسلم أو أن يكون على ذات خياره ففضّل الشهادة إلى جانبه لكن إرادة الله ثم حرص العدو على أن يخرجهما أحياء حتى يحاول النيل منهما، وبأسر الشيخ جمال انتقل الشيخ من الميدان حيث المقاومة بالرصاص والتفجير وإرهاب العدو والثأر منه ليبدأ مرحلة نضال من نوع جديد داخل قلاع الأسر[36]. وقد صنفه الاحتلال بالأسير الخطير، واستخدم معه كل أشكال التعذيب على مدار شهرين كاملين[37]. ويبين إسلام جرار أنه في الأسابيع الأولى من التحقيق حاول أن يجمعني الشاباك بالشيخ للضغط عليه من أجل الإدلاء بأي معلومة لكن الشيخ رفض أن يدلي بأي كلمة للاحتلال، وهو ما رفع معنوياتي[38].

واعتُقل قبله بعدة أيام ابنه البكر عبد السلام الذي يبلغ من العمر 16 ربيعًا[39]، وأعقبته اعتقالات لجميع أفراد العائلة ذكورًا وإناثًا مرات عديدة، وتعرضت زوجته أسماء بعد أسر زوجها للاعتقال تسعة أشهر، سامت خلالها صنوف العذاب. وتم قصف وحرق المنزل بالكامل لكي يحرق الاحتلال قلب أسماء وأطفالها الصغار، ولكنها لم تستسلم لظلم الاحتلال وبطشه، فثابرت على بث الحياة في نفوس أفراد الأسرة رغم الجراح، ولا يستغرق جواب أحد داخل المخيم عندما يُسأل عن عائلة الشيخ لحظات قبل أن يجيب إنها عائلة مجاهدة[40].